فليحدث ما يحدث، المهم هو الخروج مما يحدث بإفيه. المفترض طبعاً أن يخرج الناس مما يحدث بعبرة وعظة، إلا أننا كمصريون متفردون أنشأنا الحضارة وقت كان الكوكب يتخبط فى ظلمات جهله و همجيته إعتدنا أن نخرج من الأحداث بإفيهات، مش بعِبَر و مواعظ. أى نعم أنشأنا الحضارة ثم كبرنا مخنا وأنتخنا وتركنا الآخرين يكملون ما قد بدأناه ويستكملون ما كنا قد بدأنا إنشاؤه، إلا أنه ينبغى على العالم أن يعترف لنا بفضلنا شوية من منطلق أننا نحن من بدأنا تلك الليلة من الحضارة التى تقطف البشرية الآن ثمارها على هيئة تكنولوجيا وإبداع وحياه باتت أشبه بحياة الروبوتات. ربما كان ذلك هو مكمن عبقريتنا الحقيقية، أننا تقريباً الدولة الأقدم فى ذلك العالم التى مرت بكل أنواع الكوارث الطبيعية والبشرية والتى تعرضت لكافة أشكال وألوان وأنواع وأطياف الإحتلال، إحتلالات خارجية واحتلالات داخلية، إحتلالات خارجية من دول كثيرة و قوى عدة، بعضها لا يزال باقياً فى حين اندثر بعضها الآخر (واحنا لسه ما اندثرناش) واحتلالات داخلية من قوى فساد واستبداد وإقطاع واستنطاع وجماعات همجية وإرهابية، و كله فى النهاية بيتكل، بينما يبقى دوماً الشعب المصرى بلغته بعاداته بتركيبته العجائبية الغرائبية غير المفهومة، يبقى دوماً الشعب المصرى بقدرته الغريبة على الخروج من أى شيء يخص أي حاجة فى حياته البائسة بإفيه.
إنها عبقرية البقاء على قيد الإفيه، حيث أثبتت التجربة العملية المعملية التي نحن بصددها منذ سنوات أن المصري الحقيقي لا يستطيع مواصلة حياته بدون إفيهات، فالإفيهات هي العمود الفقري لأيامه التي باتت كوميدية حد التعاسة، والتهريج هو قوام حياته التي يعتقد أنه لو أخذها بجد وعلى صدره فإنه لن يتحمل كل هذا القدر من العبث الحياتي وسوف يطق ويموت فوراً.
وبصرف النظر عن مدى ما تتصف به تلك الطريقة في الحياه من حكمة، إلا أن المشكلة تحدث عندما تتحول الحياه بأكملها إلى إفيه كبير ومتواصل، إفيه مالوش نهاية (زي مستر إكس) حيث ينبغي في وقت من الأوقات أن يقف كل بني آدم منا مع نفسه قليلاً، ويتوقف عن إلقاء الإفيهات عمال على بطال على اللي يستاهل واللي ما يستاهلش، فالحياه وإن كانت في الأساس عبارة عن إفيه كبير، إلا أنها في الوقت نفسه تستحق منا بعض الجديّة أحياناً، تستحق منا بعض اللحظات من التأمل الذاتي والتفكير العميق في أنفسنا، فى ما الذى نريده من تلك الحياه، وهل نحن على الطريق الصحيح الذي يمكنه أن يصل بنا إلى مُبتغانا وغايتنا، أو حتى على مشارف الطريق، مش الطريق نفسه.
أنتم منشغلون الآن بالتفكير في البلد، و تحلمون بتغييرها للأفضل، جميل جداً، إلا أنكم بدون الإنشغال بالتفكير في أنفسكم قليلاً من أجل تغييرها للأفضل، لن تستطيعوا تغيير أي شيء، سواء للأفضل أو حتى للأسوأ.
تعرفوا على أنفسكم قبل أن تتعرفوا على برامج المرشحين، ضعوا برنامج حياتكم الخاص لكي تستطيعوا إختيار برنامج حياة البلد العام، أنتم بدون عقولكم وبدون نضجكم وبدون تعلمكم من أخطائكم السابقة غير مؤهلين للإختيار، حيث أن الإختيار يقتضي التفكير وبذل الجهد في تحليل المشهد والتعرف على أبعاده الكاملة واستبعاد كافة مشاعر المراهقة الفكرية والنفسية والسياسية، فكرة الإختيار في حد ذاتها مرحلة من مراحل عملية معرفة النفس التراكمية، فكل شخص هو حصيلة إختياراته، إختياراتكم هي أنتم.
لا تتطرفوا فى الإهتمام بالأشياء التى تفرضها الأحداث عليكم، و إنما حاولوا أنتم التحكم فى الأحداث وتغيير دفتها عن طريق تغيير دفة إهتماماتكم، فالحياه ما ينفعش تكون كلها سياسة، هناك أشياء أخرى فى ذلك العالم الواسع والممتد واللا نهائى تستحق منكم أن تمنحوها أوقاتكم. أرجوكم، إمنحوا تلك الأشياء الأخرى وقتكم قبل أن ينفد هذا الوقت لتكتشفوا أنكم دخلتم لعبة الحياه و خرجتم منها من غير ما تتفرجوا على أى حاجة.
حاولوا أن تخرجوا من الحياه بشيء آخر بخلاف الإفيه. و لتتصور معي مشهدك في الآخرة عندما يسألك أحد رفاق الرحلة: وحضرتك خرجت من الحياه بإيه بقى؟