أتأكد أن مازال في وعاء الليل بقية.. أركض لألحق كوب القهوة قبل أن تهرب منه لسعة السخونة.. أشربه.. أشعر بالسائل الإكسيري يتلمس طريقة عبر أخاديد عقلي المغشلق.. أتخفف من ملابسي؛ ثم أدلف نحو اللاوجود. الظلام أمامي عبر شيش البلكونة ممتداً لا يقطعه صوت ولا يدنسه ضوء.. فقط أنا وصمتي؛ فقط أنا وجزيئات الكون المتناثرة من حولي؛ فقط أتلمس طريق المناجاة للتواصل مع الكون عبر آثير من الصمت. التجربة مع غرابتها ملهمة.. مع اختلافها موحية.. مع تركيبتها بسيطة؛ أن تنصت إلي الصمت.. يا لها من تجربة.. كان عقلي يصرخ أن كفي هراءً فلا صوت للصمت.. ما الصمت إلا وعاءاً فارغاً وما عليك سوي أن تملؤه بالأفكار وأن تترجمه بالكلمات.. بينما روحي تدفعني جزيئاتها دفعاً للإنصات.. تدفعني دفعاً للمناجاة.. ففعلت وبكل جوارحي.. الآن فقط اكتشفت أن سيكولوجية الانتشاء تبدأ دائماً بتجنيب الجانب المادي مهام عمله وإيداعها بين يدي الروح الأمينة.. هكذا عرف الانتشاء طريقه إلي قلبي.. فاقتربت وأنصت واستمعت. كنت كما جهاز الاستقبال الذي يتغير بتغير الشفرات الواردة إليه.. لم أكن أعرف أن الصمت مليء بكل هذا الصخب.. صخباً منظماً يقربك من تفاصيل الكون المبعثرة في كل الجوانب.. ومع إنصاتي إلي الصمت بدأت الأفكار تنهمر علي عقلي وكأنه صنبوراً لم يعتني به السباك منذ فترة.. وهنا تأكدت أن الصمت ليس وعاءاً فارغاً ينتظر مني أن أملؤه بالأفكار.. بل كان هو المصدر الرئيسي والأساسي والأزلي والكوني لتلك الأفكار.. الآن فقط تكتشف أن الوحي ما هو إلا لغة متفردة للصمت لا يفهمها إلا من جلس ينصت من أعماق لهذا الصمت؛ أن تغمرك النسمات وتدلف معها الأفكار والكلمات والشفرات إلي داخلك وكأنك صرت تتمتع بخاصية التليباثي؛ الفارق الوحيد هنا أنك الطرف الأول في العلاقة أما الطرف الأخر فشيء مجهول غامض كل ما تعرفه عنه أنه يتكلم إليك.. وأنك له منصتاً. العلاقة الكونية تمتد أمام عيني بكل جزيئاتها ومعادلاتها وهراءها أحياناً.. وصمتها المتكلم دائماً؛ الآن صارت مفردات مثل الواقع والخيال لا تضاد بينهما سوي أن جسدك يمثل الواقع وروحك هي منبع الخيال.. الآن فقط تتأكد أن الخيال جاء ببذرته من الواقع وأن الواقع يغمره جزء كبير من الخيال.. الآن فقط سوف تشعر بوجودك وسط عبثية الحياة المادية القاتلة.. الآن فقط تكون قد أنصت إلي الصمت.