في 23 من يونيو 1882، وقبل أيام من «قصف الإسكندرية» وما تلاه من احتلال بريطانيا لمصر، بدأ في «اسطنبول» عاصمة الدولة العثمانية صاحبة السيادة علي مصر آنذاك مؤتمر شاركت فيه الدول الأوروبية الخمس الكبري. واتفق المؤرخون أو كادوا علي تحاشي ذكره، مع أنه المؤتمر الذي قادت فعالياته وملابساته مباشرة إلي احتلال مصر، وهو أيضا الحدث الذي يكشف الوجه الاستعماري للمشاركين فيه علي أقبح ما يكون. ومن المساخر أن أطرافه سموه «مؤتمر البراءة»، لأنهم وقعوا قبل انعقاده اتفاقا مبدئيا، يثبت «براءتهم من الأثرة»، بمعني ألا تحاول أي دولة من الدول المشاركة الحصول منفردة علي مزايا أو حقوق خاصة تستأثر بها في مصر، التي كانت جسدا يصارع الموت، ويختلج ببقايا حياة، بين خمسة جزارين لا يبالون بمعاناته ولا بحياته، لا يهمهم من «الحق» إلا مقدار ما سيحصلون عليه من لحم مصر، ولا يعرفون عن «العدل» إلا أنه ذلك «الشئ» الذي سينادي كل منهم بتطبيقه، إن نقص نصيبه من اللحم عن نصيب الآخرين، مطالبا بالمساواة بين الحصص! وفي واحد من أكثر فصول التاريخ هزلا وفضائحية، نجد الدولة العثمانية، التي أقيم المؤتمر في عاصمتها بموافقتها أو بإذعانها لم تشارك في أعمال المؤتمر «عندما رأته اعتداء علي حقوقها» كما يقول «تيودور أرونوفيتش روتستين» في كتابه «خراب مصر»، أما المشاركون في المؤتمر فهم: فرنسا، روسيا، ألمانيا، إيطاليا، وقبلهم جميعا «انجلترا»، التي مثلها في المؤتمر سفيرها لدي الباب العالي «اللورد دوفرين»، و يقول «روتستين» إنه أي «دوفرين» كان يفتتح جلسات المؤتمر بأن يقرأ علي ممثلي الدول الأخري ما يدعي أنه «الرسائل الكثيرة الواردة من القاهرة في وصف خطر الحال هناك والسلوك الفاضح للوزارة الهزلية». ويضيف «فكان زملاؤه يصغون إليه وعلائم الشك فيما يسمعون بادية عليهم. بل إن منهم من صرح بأنه لا يستطيع قبول هذه الآراء». ما يعني أن «دوفرين» كان يكذب فيما يقرؤه. وفي الحاشية التي ذيل بها «ولفريد سكاون بلنت» تمهيده لكتاب «خراب مصر» وعنونها «وعود انجلترا»، يؤكد «بلنت» أن «دوفرين» كان يكذب أيضا فيما يكتب من رسائل ويطلق من تصريحات. وأول ما يورده «بلنت» في هذا الشأن مقتطفا من «عهد البراءة» الذي وقع عليه «اللورد دوفرين» مع بقية ممثلي الدول الخمس الكبري في 25 من يونيو 1882، ونصه: «تتعهد الحكومات التي يمثلها الموقعون علي هذا، بأنها في كل تسوية يقتضيها عملها المشترك لتنظيم شئون مصر، لا تسعي إلي امتلاك شيء في أرضها، أو أي إذن بأي امتياز خاص، أو أي مزية تجارية لرعاياها غير التي يمكن أن تنالها أي دولة أخري». وهو كما ترون اتفاق «الضباع» علي لحم «الفريسة»، ولا غرابة في أن «انجلترا» لم تحترمه، إذ أعلنت «الحماية» علي مصر في أول فرصة، فما كانت أي من الدول الموقعة عليه لتظل مخلصة له لو تمكنت من الغدر. إنها الطريقة نفسها التي يتعامل بها «القادرون» اليوم مع المعاهدات والاتفاقيات، التي يوقعونها فقط ليلزموا بها الأضعف منهم. وانظر مثلا إلي «كومة» تعهدات خفض الإنفاق العسكري التي وقعتها «الولاياتالمتحدة»، بينما كشف تقرير أصدره معهد «ستوكهولم» لأبحاث السلام 2010 أنها تصدرت قائمة الإنفاق العسكري في العام السابق، حيث أنفقت 661 مليار دولار، بنسبة 44% من إجمالي الإنفاق العسكري لدول العالم (نحو 1500 مليار دولار)، متجاوزة ستة أضعاف حجم إنفاق «الصين» التي احتلت المركز الثاني ب100 مليار دولار، وأكثر من عشرة أضعاف الإنفاق العسكري لفرنسا، التي حلت ثالثا ب63.9 مليار دولار. وهي إحصائية لا تكشف فقط أن الإنفاق العسكري الأمريكي مقارنة بالعام 2008 زاد 38 مليار دولار، أي أن الزيادة الأمريكية وحدها تعادل 60% من إجمالي الإنفاق العسكري الفرنسي، و38% من إجمالي الإنفاق الصيني. إحصائية لا تكشف فقط نفاق الإدارة الأمريكية، التي يخالف سلوكها كل ما وقعته ورعته من اتفاقيات خفض التسليح، ولا تكتفي بفضح السبب الحقيقي للأزمة المالية العالمية، المفتعلة للاستيلاء علي ما تبقي في خزائن الدول الأقل قوة، لكنها تكشف أيضا خطورة الالتزام ببنود الاتفاق مع «الأقوياء»، حيث أصبحت «روسيا»، بالتزامها وإنفاقها العسكري الأقل من 50 مليار دولار، خارج معادلة القوة التي كانت ذات يوم طرفها الثاني. فهل نقول ما أشبه الليلة بالبارحة؟ وهل نقارن ما جري للقيصر الروسي القديم بما يعد اليوم للقيصر الجديد؟ ومن أكاذيب «دوفرين» التي يوردها «بلنت» أيضا قوله في رسالة كتبها في 11 من ديسمبر 1882، بعد شهور من احتلال مصر: «لقد قلت لكل من سألني رأيي في المسألة المصرية إننا ليست لنا أدني رغبة في الاحتفاظ بالسلطة التي آلت بهذه الطريقة.... لقد كانت نيتنا أن تكون علاقتنا بالمصريين بحيث تجعلهم يعدوننا بطبيعة الحال خير أصدقائهم ونصحائهم. ولكنا لم نقرر في سبيل ذلك أن ننزلهم علي آرائنا أو نحجر عليهم حجرا يستثير حفائظهم». فمن يصدق أن «دوفرين» كاتب هذه الرسالة، هو نفسه «دوفرين» الذي شحذ السكاكين لذبح مصر وأشرف علي تقسيم لحمها، قبل أن تغدر بلاده وتستأثر بالفريسة كلها؟ علي أي حال أنبهكم إلي قوله «أو نحجر عليهم حَجْرا يستثير حفائظهم»، الذي لا يرفض «الحَجْرَ» من حيث المبدأ، لكنه يحاذر أن يثير هذا الحَجْرُ الحفائظ! وهنا أدعوكم لمراجعة كل ما صدر من قرارات مجلس الأمن ومقررات المؤتمرات والاتفاقات الدولية بشأن الصراع العربي الصهيوني لتكتشفوا أنها محكومة بهذا المبدأ الاستعماري نفسه، اقرأوا الأوراق بعيون تخلت عن غيبوبتها ولو إلي «نصف يقظة»، وستكتشفون حجم الخدعة، إذ تجدون كل النصوص التي «تبدو» مساندة للحق العربي مائعة مشوبة بالغموض والاستثناء، خالية من «الصيغة التنفيذية». بينما تأتي النصوص التي تصادر هذا الحق قاطعة الصياغة، محددة الدلالة، ملزمة واجبة التطبيق. ولاحظوا أننا نخرج من كل محفل دولي نذهب إليه مع الصهاينة وقد ازداد موقفنا سوءا، وغرقنا في المزيد من وحل الإلزامات والقيود الدولية، بينما يزداد عدونا تجبرا وعربدة، ولا يحاسبه أحد. وهو أمر لا يعود فحسب إلي الطبيعة الإجرامية للكيان الصهيوني، ولا إلي التواطؤ الغربي مع جرائمه، لكنه قبل هذا وذاك يرجع إلي النصوص نفسها، التي نوقع عليها أو نرحب بها مضللين أو مجبرين والتي تسمح في ذاتها للكيان الصهيوني بارتكاب المزيد من جرائمه، مع إضفاء المشروعية علي هذه الجرائم. ليست مصادفة أننا نذهب إلي المحافل الدولية للشكوي فنخرج محملين بمزيد من القيود، ويذهب الكيان الصهيوني متهما فيخرج مسموحا له بارتكاب المزيد. ليست مصادفة، لكنها نتيجة منطقية سببها هو نصوص الاتفاقات والقرارات والتعهدات الشفهية والمكتوبة، وذلك أمر لا يحتاج إدراكه إلا دقائق من إعادة استعراض ما جري، ليدرك حتي من لا يتمتعون بذاكرة قوية أن كل ما حصلنا عليه، وفرحنا به «فرحة المجنون باتفاقيته» كان في الواقع «عقود إذعان» نوقعها لصالح عدونا. والحل شديد الوضوح هو أن يعلن العرب جميعا وفورا عدم التزامهم بكل ما سبق توقيعه وإصداره، وحجتهم البسيطة هي «اختلاف مفهوم النص بين أطراف الاتفاقيات». ومفهوم طبعا أنه قرار يحتاج إلي قيادات غير القائمة حاليا، وحكومات حقيقية تمثل إرادة شعوبها وتستند إلي تأييدها، لا هياكل أنظمة و«فزاعات» عينتها أمريكا لتحرس سيادتها وحليفتها. وأذكركم بأن «أوباما» في كلمته أمام جامعة القاهرة، التي تصور البعض وهذا خطأ فادح أنه يتعهد فيها بوقف بناء المستوطنات، وصف العلاقة بين بلاده والكيان الصهيوني في صراحة لا تقبل اللبس بأنها «عروة لا تنفصم». وهو وصف يدين «بلاهة» كل من سمعه ثم توسم فيه خيرا. ولو نحينا «الأقوال» جانبا وانتبهنا إلي «الأفعال» سنجد أن وتيرة بناء المستوطنات عادت إلي الارتفاع برعاية أمريكية. وفي ظل الرعاية نفسها تواصل العدوان الصهيوني صريحا، متجاوزا العرب إلي مواطني أكثر من 45 دولة شاركوا في قافلة سفن الحرية، ارتكب العدو الصهيوني ضدهم جرائم: القرصنة، والقتل، والجرح، والشروع في القتل، والتهديد، والسرقة، والاختطاف، والإتلاف، والاحتجاز، والإهانة، ومنع المساعدة الطبية، واستهداف المدنيين، والإسراف في استعمال القوة، والإكراه، ونقض الاتفاقيات المنظمة لحركة المسافرين. وبرغم هذه القائمة الطويلة، فإن «أوباما» لم يكتف برفض إدانة الكيان الصهيوني، بل أكد «التزامه بأمنه» علي طول الخط. مطلقا تصريحات تعني بعد تجريدها من اللف والدوران أنه علي الفلسطينيين الكف عن المقاومة حتي يمكن «التفكير» في تخفيف قسوة الاعتداءات عليهم. وهكذا فإن الإدارة الأمريكية شريك أساسي في العدوان لا في السلام وحصار الفلسطينيين في غزة (بإغلاق المعابر) وفي الضفة (بالجدار العازل) هو حصار أمريكي قبل أن يكون صهيونيا.