إسرائيل استعانت بالأساطير وبمزاعم عن يهودية هيلاسلاسى لضم إثيوبيا إلى صفها قدَّمت جولدا مائير هدية للرئيس الكينى كينياتا فتغلغل النشاط الصهيونى بمختلف أوجهه فى البلد الإفريقى المهم أبدعت الاستراتيجية الإسرائيلية فى إفريقيا أسلوبًا جديدًا ومهمًّا فى مجال تأسيس وتقوية العلاقات مع دول القارة خلال الفترة من 1948-1967، وهو أسلوب إقامة العلاقات الخاصة مع نفر من أبرز القادة الأفارقة نذكر منهم ما يلى:
عندما استقلت كينيا وانتخبت كينياتا رئيسًا لها أوفد الكيان الإسرائيلى جولدا مائير للاشتراك فى الاحتفالات، واستطاعت مائير التعرف شخصيًّا على كينياتا وتقديم هدية شخصية إليه، وكانت هذه المناسبة فاتحة لعلاقات شخصية أكثر رسوخًا فى ما بعد، فقد ساعد كينياتا المعروف بولائه للغرب وعلاقته الحميمة بالكيان الصهيونى على تغلغل النشاط الصهيونى بمختلف أوجهه فى كينيا.
2- وليام تيبمان الرئيس الليبيرى الأسبق:
ارتبط الكيان الإسرائيلى بعلاقات شخصية وطيدة مع تيبمان منذ عام 1948، ومعروف أن ليبيريا كانت أول دولة إفريقية تعترف بالكيان الصهيونى وتؤيد انضمامه إلى الأممالمتحدة، وقد نشأت هذه العلاقة بين تيبمان وزعماء العدو خصوصًا ليفى أشكول وأبا إيبن وموشى دايان، وزار الكيان الصهيونى أكثر من مرة، وكان من أشد المتحمسين لصداقة الكيان الصهيونى. كذلك ارتبط وليام تولبرت رئيس ليبيريا، الذى خلف تيبمان بعد وفاته، بنفس العلاقات، فقد تعهَّد شخصيًّا للزعماء الصهاينة بأن صوت بلاده سيكون دائمًا إلى جانب الكيان الصهيونى فى الأممالمتحدة ومؤسساتها وفى المؤتمرات الدولية، وهذا ما حدث فعلًا.
لم ينجح الكيان الإسرائيلى فى احتواء شخصية إفريقية مثل نجاحه مع موبوتو، وهذه العلاقة مع موبوتو نشأت عندما كان يشغل منصب قائد قوات الكونغو، وحينما وفد إلى الكيان الإسرائيلى لتلقى دورة عسكرية، حيث حصل على أجنحة مظلى من الجيش الصهيونى، منحه إياها الجنرال تسور، رئيس أركان جيش الاحتلال الصهيونى، وتمكن الإسرائيليون، خلال ذلك، من توطيد هذه العلاقة لأنهم كانوا يتصورون أن مستقبلًا زاهرًا فى انتظاره، وأن طمعه فى تولى السلطة سيقوده يومًا إلى القيام بمحاولة انقلابية، وليس من المدهش أن نجد الصهاينة ينظرون إلى موبوتو كصنيع أكثر مما هو صديق حميم. على سبيل المثال يتساءل أرئيل شارون وزير الحرب الصهيونى قائلًا: لماذا يستغربون تمسك موبوتو بصداقة إسرائيل وباحتفاظه بعلاقات شاملة رغم عدم وجود سفير فى كينشاسا؟ إن موبوتو ليس صديقًا حميمًا لزعماء إسرائيل السياسيين فحسب وإنما للعشرات بل للمئات من الضباط.
4- هيلاسلاسى إمبراطور الحبشة:
نشأت العلاقة بين إمبراطور الحبشة هيلاسلاسى والكيان الإسرائيلى على أرضية تاريخية قديمة يعود عهدها إلى الماضى البعيد، ويدَّعى مؤرخون صهاينة أن العلاقات الإثيوبية الصهيونية لها جوانب دينية وتاريخية، فالحبشة كانت فى الماضى السحيق مركزًا مهمًّا للديانة اليهودية بعد أن اعتنق الأحباش هذه الديانة التى انتقلت من اليمن واتخذت هذه العلاقات بعدًا تاريخيًّا آخر فى عهد الملك سليمان عندما تزوَّج ملكة سبأ، (وفقًا لمعتقداتهم)، ولا تزال هناك قبائل يهودية كبيرة يعرف أفرادها بقبائل «الفلاشا» تعيش فى الحبشة، وقد بدأ أفرادها يهاجرون إلى الكيان الإسرائيلى فى الآونة الأخيرة.
ومن هنا فلا غرو أن يكون تعامل الصهاينة مع هيلاسلاسى لكسب وده مختلفًا تمامًا، فالكيان الصهيونى لم يعمد إلى أسلوب الإغراء وإنما استعان بالأساطير القديمة لإثارة نوازع لدى هيلاسلاسى وقد شاهدنا آثار ذلك من خلال تركيز أرباب الدعاية للإمبراطور السابق بأصله اليهودى وبالدم اليهودى الذى يجرى فى عروقه، الأمر الذى أدى إلى إقدامه على فتح أبواب بلاده أمام النشاط الإسرائيلى وتقديم تسهيلات بحرية بل وقواعد فى ميناء مصوع وعلى السواحل الإثيوبية، واستمرت العلاقات حتى بناء «سد النهضة 2013» الذى سيدمر الزراعة والكهرباء فى مصر!!
بدأت العلاقة مع بوانييه قبل استقلال بلاده، عندما استطاع بعض زعماء الكيان الصهيونى أن يصلوا إليه فى باريس ويقيموا العلاقات معه وبينهم شمعون بيريس وإسحاق نافون، ومنذ ذلك الوقت بدأت أواصر العلاقة الشخصية معه ومع ليوبولد سنجور وبورقيبة والملك الحسن الثانى ملك المغرب الراحل الذى كانت تربطه علاقات وثيقة بإسرائيل وبأجهزة مخابراتها، وفقًا لزعم بعض الكُتاب الذين نشروا ذلك بعد وفاته وبعد حضور صفوة قادة الكيان الإسرائيلى لجنازته.
تلك كانت سنوات التأسيس والعلاقات الإسرائيلية-الإفريقية بوسائلها وشخصياتها ومراكزها ومؤسساتها والتى استمرت منذ حرب 1948 حتى حرب 1967، ولقد كان للدور المصرى بقيادة جمال عبد الناصر، فى حصارها وإفقادها فاعليتها، تأثير كبير، لكن الدهاء والدأب الإسرائيلى نحو الاختراق المؤسسى والسياسى والاقتصادى للقارة السوداء استمر وأنتج ثمارًا خطرة على مصر والعرب.
أكدت التطورات والأحداث السياسية التى عاشتها إفريقيا خلال حقبة الستينيات من القرن الماضى تنامى العلاقات الدافئة بين إسرائيل وعديد من الدول الإفريقية، إلى الحد الذى بلغ فيه عدد الدول التى أقامت علاقات دبلوماسية معها 32 دولة، فضلًا عن تمثيل قنصلى فخرى مع خمس مناطق أخرى كان معظمها لا تزال مستعمرات، وبالمقابل وفى بداية عام 1967 كان ل11 دولة إفريقية تمثيل دبلوماسى لها فى إسرائيل.
■ ■ ■
غير أنه وبعد حرب يونيو 1967 بدأت صورة إسرائيل تهتز فى أذهان الأفارقة، وفى الوقت الذى كانت تحرص فيه منظمة الوحدة الإفريقية على عدم إدانة إسرائيل، بدأت تتدرج فى التعرض لموضوع القضية الفلسطينية مطالبة إسرائيل بالانسحاب من الأراضى العربية المحتلة، غير أنه ومع ازدياد التقارب العربى-الإفريقى، وإزاء التعنت الإسرائيلى، بدأت منظمة الوحدة الإفريقية تتخذ قرارات أكثر حزمًا وصولًا إلى القرار الذى اتخذته المنظمة فى مايو 1973 الذى تضمن تحذيرًا رسميًّا ل«إسرائيل» بأن رفضها الجلاء عن الأراضى العربية المحتلة يعتبر اعتداء على القارة الإفريقية وتهديدًا لوحدتها، وأن الدول الأعضاء فى المنظمة تعتبر نفسها لذلك مدعوة لأن تأخذ -منفردة أو بصورة جماعية- أى إجراءات سياسية واقتصادية مناسبة لصد ذلك العدوان، وكان هذا القرار نقطة تحول فى تطور رؤية إفريقيا للنزاع العربى الإسرائيلى، وبعد القرار مباشرة سارعت ثمانى دول أعضاء فى المنظمة إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، ثم قطعت بقية الدول علاقاتها تباعًا ب«إسرائيل» بعد اندلاع نيران القتال فى أكتوبر 1973 حتى لم يبق ل«إسرائيل» فى إفريقيا علاقات دبلوماسية إلا مع جنوب إفريقيا ومالاوى وليسوتو وسوازيلاند وبتسوانا.
أما عن الأسباب التى أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية الإفريقية-الإسرائيلية خلال الفترة من 67-1982 فإن ثمة رأيين فى هذا الشأن، الأول: يرجع إلى «عوامل ذاتية» تتعلق بالدرجة الأولى بتطور الوعى السياسى بطبيعة القضية الفلسطينية ونمو العلاقات العربية الإفريقية، وهو النمو الذى أدى إلى حضور عربى أكثر فى إفريقيا مع كراهية متزايدة للصهاينة، الأمر الذى أدى إلى قطع للعلاقات، بينما يرى أصحاب الرأى الثانى أن «عوامل خارجية» من قبيل تحولات المشهد السياسى الدولى المعادى لإسرائيل، فضلًا عن ازدياد الاستثمارات العربية فى دول القارة، وتقدم العلاقات المشتركة مع دول النفط، كل هذه العوامل كانت وراء هذه القطيعة.
لقد كان تتابع إجراءات قطع العلاقات الدبلوماسية بين عدد من الدول الإفريقية وإسرائيل، بلغ نحو الثلاثين دولة فى عدة شهور من عامى 1972 و1973، شيئًا لافتًا للمراقبين ومثيرًا لعديد من التعليقات والتحليلات، فهى «مظاهرة سياسية» بحق، وهى «ظاهرة» أيضًا جديرة بالتأمل العميق للإجابة عن عديد من التساؤلات بشأنها.
■ ■ ■
لقد تحمس بعضهم للحديث عن انبثاق نظام إقليمى فرعى جديد يضم العرب والإفريقيين وتعزل فيه إسرائيل، وتابع آخرون تطور وعى الرأى العام الإفريقى بحقيقة إسرائيل أو تابع «تصاعد النفوذ العربى فى محيط العالم الثالث بصفة عامة والقارة الإفريقية بصفة خاصة بل واحتمل زيادة تبعية الدول الغربية للبلدان العربية بالنظر إلى ما تعانيه أوروبا الغربية من أزمات حادة فى مجال النفط والنقد، ولن نغفل طبعًا جهد الباحثين فى متابعة تطور الموقف الإفريقى منذ عام 1967 وتطور تأثير التعنت الإسرائيلى تجاه القضية الفلسطينية التى اكتسبت قوة من حركة الكفاح المسلح الفلسطينى، بل والإقرار الإفريقى بالنضال المشترك ضد عدو مشترك عميل لإمبريالية إسرائيل».
ولا شك أن كل هذه التفسيرات تدخل بدرجة أو بأخرى فى فهم «المظاهرة» الظاهرة وتجيب عن بعض التساؤلات من حولها.
لقد فهمت إسرائيل من خلال الطريقة التى تمت بها عمليات المقاطعة عام 1973، أن ثمة رسالة من الغرب لها بالانسحاب المؤقت، لا تقل أهمية عن تلك الرسالة التى فهمتها أوائل الستينيات بشأن «التقدم السريع» فى إفريقيا لأسباب تتعلق بالمصالح العليا للمعسكر الغربى فى الحالتين، رغم أننا لا ننكر خصوصية التكتيك الإسرائيلى وردود أفعاله الآنية، ولذا فإن الدوائر الإسرائيلية وأجهزة إعلامها راحت تعالج أسباب الأزمة، وكيفية تجاوزها دون أن يسىء ذلك إلى مركز إسرائيل الخاص فى القارة. وكان طبيعيًّا أن يبدو رد الفعل المباشر عصبيًّا، حتى لقد وصف ذلك أحد الباحثين الإسرائيليين بأن الذين بالغوا فى وصف قوة إسرائيل فى إفريقيا مثلهم مثل الذين يبالغون الآن فى إعلان خيانة إفريقيا أو اتهامها بعدم النضج.
وراحت إسرائيل تعكس غضبها باتخاذ بعض الإجراءات المحدودة لإشعار الجانب الإفريقى بخطورة قطع العلاقة مع إسرائيل، فسارعت بسحب عدد من خبرائها وفنييها (بلغ نحو 126 خبيرًا وفنيًّا) مع ترديد مبدأ عدم تقديم المساعدات الفنية بوجه خاص دون علاقات دبلوماسية، بل حاولت ممارسة مزيد من الضغط المباشر بسحب بعض المشروعات القائمة على عقود قصيرة المدى، لما لها من فاعلية أكثر، وأوقفت العمل فى 89 مشروعًا، وتبع ذلك إبعاد بعض المتدربين الإفريقيين من إسرائيل نفسها، وتحول مفهوم إسرائيل للعالم الثالث الذى تطلعت أن تكون عضوًا بارزًا فيه إلى خيبة أمل فى العالم الثالث وفى إفريقيا.
من الواضح أنه يمكن التوفيق بين هذه الآراء جميعًا، على اعتبار أن الدول الإفريقية ما كان لها أن تقطع العلاقات بهذا الشكل الدرامى إلا وقد تبلورت لديها قناعات هيئت لهذا القرار، كما أنه من الصعب أن تصور من جهة أخرى أن هذا القرار اتخذ رغم أنف القوى الغربية، فثمة تكامل وتناغم بين العوامل المختلفة، كانت محصلتها قطع العلاقات الدبلوماسية.
إن قرار كهذا لا شك فيه قدر من المبدئية والوطنية وحالة رفض للاستعمار الجديد الذى بدأت تمثله إسرائيل فى أذهان الأفارقة، غير أننا لا يمكن أن نعمم هذه الحالة لتشمل كل الدول الإفريقية، فبعض الزعماء الأفارقة لم تكن المبادئ دافعهم بالتأكيد إلى اتخاذ هذا القرار، فمن الخطأ أن نتعامل مع الدول الإفريقية ككتلة متجانسة واحدة، ولقد أثبتت الأيام بعد ذلك أن كثيرًا من الدول الإفريقية حرصت على استمرار علاقاتها بالكيان الصهيونى حتى بعد اتخاذ قرار قطع العلاقات الدبلوماسية، ونذكر فى هذا الصدد ما قاله يسرائيل هيرتس، نائب رئيس شعبة العلاقات الدولية فى الهستدروت، فى أثناء حضوره مؤتمر النقابات المهنية الإفريقية الذى عقد فى لاجوس 1967، قال هيرتس: «إن العلاقات الدبلوماسية مع الأقطار الإفريقية ليست مهمة من أجل الاحتفاظ بعلاقات جيدة بين إفريقيا وإسرائيل، وأنه على الرغم من قطع هذه العلاقات فإن العلاقات الأخرى توطدت وتنامت بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، وعلى الأخص العلاقات الاقتصادية، وهذا ما توكده الحقائق السياسية والاقتصادية عامى 1980 و1981 (آخر فترة الانقطاع الكامل للعلاقات)، ارتفعت الصادرات الإسرائيلية إلى إفريقيا 60%، ومال الميزان التجارى إلى مصلحة إسرائيل خلال هذه الفترة، فقد صدّرت إسرائيل إلى إفريقيا ثمانية أضعاف ما استوردته منها سنة 1981، وصدرت إسرائيل إلى دول إفريقيا معدات زراعية، وأسمدة وكيماويات وأدوية، وقطع غيار ومعدات إلكترونية، واستوردت منها منتجات زراعية مثل: البن والكاكاو والخشب والقطن، واحتفظت إسرائيل بعلاقات تجارية مع أكثر من ثلاثين دولة إفريقية، بينما يعتبر شركاؤها الرئيسيون فى التجارة دول نيجيريا، وكينيا، وزائير، وتنزانيا، وزامبيا، وإثيوبيا، وساحل العاج، وغانا. وتوازى تجارة إسرائيل مع نيجيريا وحدها نصف حجم تجارتها مع إفريقيا كلها.
كذلك كانت تدير تجارة إسرائيل مع إفريقيا شركات عامة وشبه عامة أهمها «كور ساحر- حوتس» (كور للتجارة الخارجية)، و«ديزنغوف» و«إلداء»، وهناك شركات خاصة مثل «ناديران» و«أمكور» و«طيبع» تتفاوض مباشرة مع مختلف الدول الإفريقية.
إن الدهاء السياسى والاقتصادى الإسرائيلى إذن لم يتوقف، وإن كان قد تأثر نسبيًّا من جراء التطورات والضغوط العربية والدولية والإفريقية خلال الفترة 1967-1982، ولذا كان طبيعيًّا أن ينطلق الدور الإسرائيلى وبقوة بعد ذلك داخل القارة الإفريقية مستخدمًا الوسائل كافة والأدوات، كما سنرى لاحقًا.