ثار جدل واسع في الأيام الماضية، حول ما سُمي ب «الاستقواء بالخارج»، فجرته زيارة عدد من الشخصيات العامة إلي الولاياتالمتحدة، واشتراكها في العديد من الأنشطة وسط التجمعات المصرية في عدد من الولاياتالأمريكية، وقد أجج هذا الجدل صدور بيان منسوب إلي بعض عناصر حركة «كفاية»، تدّعي فيه برعونة وسخف تجميد عضوية الأستاذ جورج إسحاق، أول منسق لها، وأحد مؤسسيها الرئيسيين، لاشتراكه في هذه الزيارة، تمهيدا لمحاسبته، واتخاذ قرار يحدد مصيره (!!)، وزُج في هذه المعمعة بشخصيات محترمة، تم تضليلها عن عمد، بادعاءات عارية من الصحة، لاستخدام اسمها في التهجم علي شخصيات وطنية لا يمكن لعاقل التشكيك في وطنيتها! وقد كشف هذا الجدل، البائس العقيم، عن كم الأمراض والعلل، والهواجس والتشوهات، الشائعة وسط قطاع من المصريين الصخّابين في الساحة العامة، فضلاً عن أنه أبان عن حجم الضحالة السياسية السائدة التي تدعو للرثاء، في تفكير عناصر عالية الصوت بائسة الأداء، أقامت «محاكم التفتيش الوطنية» لكل مخالفيها في الرأي وخصومها في المنهج!، وهي عناصر لا تري من النضال الوطني إلا الصراخ والمزايدة، احتكرت لنفسها حق الحديث باسم الوطن، وراحت توزع الاتهامات بالخيانة الوطنية لمعارضيها، يمينا ويسارا، وياويل من يوقعه حظه العاثر في طريقها، حيث لن يسلم من تشهيرها العشوائي، واتهاماتها غير الأخلاقية، دون أدني اعتبار لتاريخه أو تضحياته أوعطائه أو دوره! والملاحظ، أولاً، في هذه الحملة، أنها تأتي تعبيرا عن أزمة مطلقيها وعزلتهم عن المجموع الوطني، وعجزهم البيّن عن أداء دور مفيد، وعلي أي مستوي، للعمل الوطني، بعد أن تفرغت للتهجم علي الآخرين، و«تقطيع هدوم» كل المخالفين! والملاحظ، بعد ذلك، أن نيران هذه الحملة تركّزت، عن قصد وتربّص، علي شخص واحد فيها، هو الأستاذ جورج إسحاق، علي الرغم من أن الوفد ضم إلي جواره عدداً آخر من الأسماء المعروفة، علي رأسها الدكتور يحيي الجمل، والمستشار محمود الخضيري، والدكتور حسن نافعة، والدكتور أسامة الغزالي حرب، والدكتور جودة عبد الخالق، والأستاذه نور الهدي زكي، والدكتورة سامية محرز، والفنانة عزة بلبع، فضلا عن العالم المصري الكبير الدكتور رشدي سعيد، وهو ما يبين إغراض هذه الحملة، ونزوعها إلي تصفية حسابات قديمة، لا استهدافها إحقاق الحق، والانحياز للحقيقة! كما ارتكزت هذه الحملة، في افتراءاتها علي فيلم فيديو، يتحدث فيه الأستاذ جورج إسحق إلي تجمع من المصريين في أمريكا، والحق أني شاهدت هذا الفيلم عدة مرات، بحثا عن سبب معقول للإدانة، دون أن أعثر عليه، فهو لا يتعدي حديثا عاديا عن ضرورة مشاركة المصريين في الخارج في دعم جهود الشعب المصري وكفاحه، داخل الوطن، بهدف انتزاعه لحقوقه السياسية والاجتماعية، ومناشدتهم للخروج من حالة التراخي والسلبية، إلي الفعل الإيجابي الداعم لجهود التغيير، خصوصا أن النظام المصري الذي يستبيح الشعب المصري وحقوقه، لا يقيم اعتبارا إلا إلي صورته في الخارج، مطالبا إياهم بالنضال من أجل نيل حق المشاركة في الانتخابات القادمة، لما سيكون له من تأثير كبير علي مجرياتها، نظرا لعددهم وإمكاناتهم! وهو كلام صحيح، يُكتب مثله ويتحدث به الكثيرون هنا كل يوم، دون أن يواجه بهذا القدر من العنف والضراوة الذي قوبل به كلام جورج إسحاق! وبادئ ذي بدء، في الرد علي هذه الحملة المغرضة، التأكيد علي مسلمة بدهية من أبجديات العمل في الحقل السياسي، لا تحتاج إلي كل هذا الصخب من أجل إثباتها، وهي أن عملية التغيير، بالأساس، هي فعل اجتماعي تراكمي، ينهض في المقام الأول علي جهود المجتمع في الداخل، وعلي قدرته علي جمع إرادته وتنظيم صفوفه وحشد طاقته، وعلي صياغة برنامج للتغيير يلبي حاجات أكبر تحالف من الطبقات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، وأي إضافة خارجية دورها هو دور مساعد، مهما كانت أهميته! ولا أظن أن أحدا ممن شارك في هذه الزيارة كان غافلا عن هذا الأمر، وبالذات جورج إسحاق، الذي كان أحد المبادرين إلي العمل الداخلي الشجاع، مع رفاق عديدين، بإقدامهم علي تأسيس حركة «كفاية»، حينما كان الكثيرون من أعضاء «حزب التكفير الوطني»، «لابداً» في الدفء، مؤثرا للسلامة! كما أن جميع من كان في هذه الزيارة، التي لم تستغرق سوي الأسبوع وبضع الأسبوع، عادوا إلي الوطن، واستأنفوا نشاطهم ضمن الصفوف الوطنية داخل مصر، الأمر الذي يكذب ما ذهب إليه «حزب التكفير والتخوين» من مزاعم «استبدال العمل الخارجي بالعمل في الداخل»! ونأتي إلي صلب هذه الحملة وعنوان استهدافها المُغرض ألا وهو قضية «الاستقواء بالخارج»! والمدهش في الأمر، هو هذا الحجم من الخلط والافتراء والأكاذيب والادعاءات غير الشريفة المصاحبة لطرح هذه القضية، ذلك أن: أولاً: الذي يستقوي بالخارج، هو في المقام الأول، النظام الحاكم ذاته، الذي اعتاد، علي مدار العقود الثلاثة الماضية، ألاّ يحترم شعبه، (وأكبر دليل علي ذلك أسلوب تعامله مع صرخات المسحوقين المحتجين منذ شهور علي بؤس أوضاعهم)، وهذا النظام لا يقيم اعتبارا إلا ّ لدعم أصدقائه في الغرب وأمريكا، ومساندتهم، بعد أن فتح لهم أبواب البلاد «سداحا مداحا» بلا رابط، ومنحهم جميع مطالبهم وزيادة، وفي المقدمة تطبيعه مع العدو الصهيوني، وموقفه من قضية شعب فلسطين! ومن جهتها فإن الولاياتالمتحدة، تعلن يوميا، بالسياسة المعلنة وبالسلوك العملي، انحيازها لكل نظام متسلط في العالم، ولجميع الأنظمة المتسلطة التي استبدت بأمور منطقتنا، تأمينا لأهدافها الاستراتيجية، وضمانا لمصالحها العليا في بلادنا، وعلي رأسها تدفق النفط وأمن إسرائيل، ولولا دعم أمريكا المادي والسياسي والعسكري والأمني، لهذه النظم، ما صمدت في مواجهة شعوبها ليوم واحد فقط! بل ولعلي أذكّر، من نسي، تكرار إعلان إسرائيل (صنيعة الغرب الاستعماري وأمريكا وطفلهما المدلل)، أن بقاء النظام الحاكم في مصر، هو «مصلحة قومية إسرائيلية»!، وبمقولة المجرم الإرهابي، الوزير الصهيوني، «بنيامين بن إليعازر» منذ أيام، التي أطلقها في آخر زياراته إلي القاهرة، والتي أعلن فيها، ببلاغة يُحسد عليها، أن الرئيس حسني مبارك: «كنز استراتيجي لإسرائيل»! فعن أي استقواء يتحدثون، وبمن ضد مَن، إذا كانت نظرة ربيبة أمريكا إلي النظام الحالي علي هذا النحو المشين؟!. ثانيا: من المؤكد أن هذا الوفد لم يلتق في زيارته لأمريكا بأي مسئول أو شخصية رسمية أمريكية، وإنما حرص علي الالتقاء بقطاعات من المصريين، الذين استسهل دعاة «التكفير الوطني» دمغهم بالخيانة، وإخراجهم من «الملة»! وهذا الموقف خطيئة سياسية، لا تعكس سوي قصور النظر وسطحية التفكير وضيق الأفق السياسي، وفقدان مزرٍ للثقة في النفس، يُصور للسادة التكفيريين أن كل لقاء مع أجنبي أو مصري يعيش خارج مصر ينقض الوطنية! فهناك خارج الوطن من المصريين من لا يقل وطنية عن الموجودين فيه، بل ومن لم تلوث أياديه بسرقة قوت شعبه والمتاجرة بمصير مواطنيه، (وعدد من الموقعين علي بيانات التكفير قضي ردحاً طويلاً من الزمن في الخارج (!!) وهناك من مصري الخارج من أنجز علي مستوي العلم والعمل، ما يمثل إضافة حقيقية لمصر والمصريين، كما أنهم بعيدون، إلي حد كبير، خصوصا من يعيش منهم في دول أوروبا وأمريكا، عن يد البطش الأمني الداخلي، ولديهم الامكانات التي تمنحهم القدرة علي الحركة والمساندة. وأكثر من ذلك، فلو حكم مصر نظام وطني حقيقي، سيكون من ألزم واجباته إقامة جسور وثيقة مع هذه الثروة البشرية الكبيرة، وهذا ما فعلته الصين والهند وإيران وهي تؤسس لنهضتها الحديثة، (حتي لا نقول انظروا إلي عدونا الصهيوني وكيف يستخدم يهود العالم للدفاع عن مصالحه!)، بل وهذا عين ما فعله الرئيس عبد الناصر بتنظيمه «مؤتمرات المبعوثين»، كوسيلة من وسائل توثيق الروابط بين المصريين في الخارج والداخل، مع العلم أن لكل بيت مصري الآن، بما فيه بيوت المصريين في أقاصي الصعيد، فرد واحد علي الأقل يعيش خارج الوطن، ولا شك أن الغالبية العظمي من هؤلاء شديدو الارتباط بمسقط رأسهم وبأهلهم، يهمهم تقدم بلدهم الأصلي، ومستعدون للمساهمة الجادة في مسيرة نهضته. ثالثا: وأذكّر أصحاب ادّعاء «الاستقواء بالخارج» أن العمل في الخارج لدعم كفاح الداخل، كان منهجا ثابتا في تاريخ الحركات النضالية العالمية، وفي تاريخ الحركة الوطنية المصرية نفسها، بل وفي مسار الخط الأكثر تشددا فيها إن كانوا يقرأون!، خط « الحزب الوطني» ومؤسسه الزعيم «مصطفي كامل»، الذي ارتكز كفاحه علي السعي وسط الفرنسيين لحثّهم علي مساندة مطالب شعبه في الخلاص من الاحتلال الإنجليزي، وقد استكمل الزعيم محمد فريد هذا الخط من بعده، إضافة إلي جهده بين المبعوثين المصريين لطلب العلم في الخارج، من أجل تنظيم صفوفهم وربط حركتهم بالوطن. وكذلك في تاريخ الثورة الوطنية الكبري عام 1919، التي اشتعلت شرارته باعتقال «وفد» الزعماء الوطنيين، الذين ارتأوا السفر لعرض «القضية المصرية» علي مؤتمر الصلح بباريس، ولم يواجه هؤلاء الزعماء الكبار التعريض بوطنيتهم، أو التشهير بجهودهم، كما يحدث الآن! كما أن تاريخنا الحديث شاهد علي أهمية حشد التضامن الخارجي لدعم كفاح الداخل، فليس ببعيد الدور الذي أدته القوي اليسارية والمعادية للحرب والجهات الحقوقية والإنسانية، في دعم كفاح الشعب الفلسطيني، وفي التنديد بالعدوان الأمريكي علي العراق، ودم الشهيدة «راشيل كوري»، الزكي، الذي روي الأرض الفلسطينية، بعد أن سحقتها الجرافات الصهيونية وهي تتصدي لها، أسطع دليل علي هذا. رابعا: ومما يثير الاستغراب أن عناصر «حزب التخوين» كانت من أشد المتحمسين للاستعانة ب «المحكمة الجنائية الدولية»، لمحاكمة المتورطين من أمن النظام في وقائع يوم 25 مايو الشهيرة، والتي تم فيها سحل المتظاهرين من حركة «كفاية»، ومن الصحفيين والصحفيات، وقد ذهبوا إلي تهديد النظام، وآخرها منذ بضعة أيام، بشكواه في المحافل الدولية لمعاقبته علي تجاوزاته في حق الشعب المصري، ولم يعتبروا هذا الأمر استقواء ولا يحزنون!. وأخيراً، فلقد أدي منهج التخوين والمزايدات اللفظية والعنتريات الكلامية ،إلي خسارة مؤكدة لحركة المعارضة، وإلي مكسب مجاني لقوي الاستبداد، وليس صدفة أنه في حين كان هؤلاء المزايدون يشنون حرب «داحس والغبراء»، علي زيارة الوفد المصري لأمريكا، كانت جحافل الأمن «تطهر» منطقة مجلسي الشعب والشوري من العمال المعتصمين، وتسحلهم في الشوارع، بينما ذو الصوت العالي عاجزون عن تقديم مساندة حقيقية وفعالة! فالجملة الزاعقة والشعارات الثوروية وحدهما لا يفيدان قيد أنملة في النضال الفعلي، وهذا المنهج التكفيري دمّر، ويدمر، بلا هوادة، كل خطوة تخطوها الحركة الوطنية للأمام، ويجهض كل فرص العمل البنّاء، ويبدد كل ما بُني عبر سنوات طويلة بجهود هائلة!، ويخرّب جميع الجهود الرامية إلي توحيد الصف وجمع القوي. وكان من نتيجة هذا المنهج المحزنة تدمير حركة «كفاية» التي كانت ملء السمع والبصر، والهبوط بأدائها للحضيض، بعد أن تفرغ من اختطفها للتكفير والتخوين، ومطاردة كل القوي العاقلة والمحترمة فيها، ومنهم مؤسسو الحركة ذاتهم، الذين آثاروا النأي بأنفسهم عن هذا المستنقع الآسن! وهكذا لم يبق إلا أصحاب المزايدة الكلامية، الذين تصدروا المشهد في أعقاب طرد ومطاردة كل ما جمعته الحركة من كفاءات وما التف حولها من طاقات، ولم يبق للمهيمنين علي شئونها الآن، بعد أن غادرها كل مؤسسيها، وجماهيرها المعطاءة، حفاظا علي القيم والمبادئ والكرامة واحترام النفس ،إلا خوض المعارك العبثية ضد الجميع، سوي الكراسي الشاغرة يتحدثون إليها! وفي النهاية: أعرف أن نيران « التكفير والتخوين « ستتجه بعد نشر هذا المقال لكي تقتص من كاتبة، الذي هو أحد مؤسسي حركة «كفاية» كما يعرف الجميع، ولإخراجه من « المله ووصمه بكل الموبقات الممكنة! لكنني أدرك عن يقين أن الوقت قد حان لكي نقول لهؤلاء المخونين والمكفرين: « كفاية كما قلناها بالأمس القريب لرموز النظام الفاسد وسدنته. فالفساد واحد أيا كان معسكره، والحق أحق أن يُتَبع مهما كان الثمن المدفوع في سبيله، ولن تنجو الحركة الوطنية من مصيرها المحتوم، إذا استمرت رهينة ابتزاز ضيق الأفق والزعيق اللفظي وعشوائية الفكر والحركة، علي النحو الذي نراه يفقأ العين من حولنا. عضو مؤسس ل «الحركة المصرية» من أجل التغيير «كفاية»