التوسع الذي طرأ علي أعمال جلال لم يغير عاداته، ولم يمنعه من الذهاب إلي مقهي الطهاة بباب اللوق في الواحدة صباحا كل يوم. لم يعد يعمل بيديه ويعمل عنده أكثر من عشرة صنايعية، علي أربع عربات كبدة يمتلكها في وسط البلد، بعد أن كان شريكا في واحدة في شارع شامبليون، كيف حدث هذا؟.. هذا ما حدث! جلال يحب الغناء ويمتلك صوتا جميلا، ويقلد أحمد عدوية، وبعد أن يفرغ من حساباته التي يدونها في أجندة صغيرة، وبعد أن يحاسب موردي الكبدة والسجق والزيت والثوم والفلفل والطرشي في سوق باب اللوق، يتجه إلي بار الأنجلو في شارع شريف ليشرب "الفات 20" ويغني وهو سايب إديه، بصحبة صديقه المسرحي حسين، والذي كان يسكن معه هو وآخرون في شقة مشتركة في حارة برادة بالجيزة أوائل الثمانينيات. حسين بلدياته من بلقاس، وسعيد بنجاحات جلال، ويقترض منه دائما، وهو من النوع الذي يرد ما عليه، ويعتبر نفسه مستشارا له ويكون إلي جواره في الأزمات، وهو الذي اقترح عليه أن يغير من هيئته ويتخلي عن لبس الصديري البلدي تحت القمصان وأن يلبس أحذية مقفولة، مع بدايات 1992 صار جلال شخصا آخر، صبغ شعره، رغم أنه صغير في السن ولم يظهر شعر أبيض بعد، اشتري سيارة مازدا، وراح يغير الأماكن التي كانت تتعامل معه ككبدجي، وتوقف عن تدخين الكليوبترا، وتعرف عن طريق حسين علي ممثلين نصف معروفين وموسيقيين وأدباء، هو يدخن الحشيش طوال الوقت، ويسافر كل جمعة(يوم راحة عرباته) لشراء ما يلزمه من باسوس أو أبو الغيط أو الشلشلامون أو منيا القمح. هو يبدو واثقا من نفسه، وهذا غير صحيح، لأنه من النوع الذي يثير رجال الأمن في أي مكان، وعنده مرارات من الحكومة تظهر عندما يكون شاربا، الحكومة التي قبضت عليه أكثر من مرة رغم أوراقه السليمة، ربما بسبب مشيته المستريبة وكثرة تلفته. ذات جمعة في يناير 1993 عاد(هو وحسين) من باسوس تمام التمام التمام، وفي جيبه أوقية حشيش لبناني فاتح مرمل، أقنعه حسين بمشاهدة مسرحية كعبلون للنجم سعيد صالح علي مسرح ميامي(فايز حلاوة)، لأن الفنان سعيد طرابيك جاره في السيدة زينب وعده بتذكرتين سيتلقاهما علي الباب، حسين كان ينوي أن يذهب هو وحبيبته، ولكنها لم ترد عليه، جلسا في الصفوف الأولي، وكانت المرة الأولي التي يدخل فيها جلال المسرح، كان مبهورا ومسطولا ومستريبا وقلقا وفرحانا، أثناء العرض، دخل المسرح من باب الجمهور ضابط وثلاثة مخبرين، أوقفوا العرض، وقال الضابط لسعيد صالح ألم نقل لك إن الخروج عن النص ممنوع وسبق أن حذرناك؟! أصيب جلال بالهلع، الهلع الذي غطي علي المحيطين به، حاول حسين تهدئته، فقال له جلال وهو يرتعش «والحشيش اللي معايا؟»، أجابه حسين «هاته»، وأخذه منه ووضعه في جيبه بهدوء، قام جلال من مكانه ونظر إلي باب الخروج وقصده بأقصي سرعة، قبل أن يعرف أن الضابط هو الفنان طلعت زكريا، وأن ما حدث هو جزء من العرض، اختفي جلال تماما ولم يعد يظهر، وعرف حسين أنه باع عربات الكبدة ليتفرغ للمطعم الكبير الذي افتتحه في مكان ما بالمهندسين. حسين بدأ يظهر في أدوار صغيرة في السينما والتليفزيون، وتخلي عن طموحه كمخرج مسرحي لم يقتنع أحد بأفكاره عن المسرح المتقشف، بعد عامين أو يزيد تقابلا في «أبوعلي» بهيلتون النيل، كان جلال أنيقا مثل تجار المجوهرات والسيارات، الأناقة التي تعتمد علي إيهام الآخرين بأن «الغالي تمنه فيه»، وكانت بصحبة جلال امرأة جميلة، يطل النهم من عينيها الواسعتين، وكان حسين (الذي تستطيع أن تقول إنه أصبح معروفا) يرد علي تحيات الناس بين الحين والآخر. لم يتحدث الصديقان كثيرا، ربما لأن حسين قال له قبل أن يسأل عن أحواله إن الضابط كان طلعت زكريا، وعندما ذهب جلال إلي الحمام (البعيد) قالت المرأة لصديقه كلاما مبتذلا وطلبت رقم تليفونه وقالت كلاما لا يليق في حق رفيقها، وعندما عاد الحبيب، قال له حسين وهو يشير إلي المرأة «صاحبتك عايزة تعلقني يا جلال؟!»، فثار عليه وانهال عليه بالسباب وعيره بأن «لحم أكتافك من خيري» ... وهي جلست تبكي.