مصر تحتاج إلي جهد كل أبنائها لتنهض وتتقدم، وأهم تجليات الوطنية أن نتعلم كيف نتناقش بحرية، وأن ندافع عن حق شعبنا في الحوار. ولقد كان الحوار أهم أسباب تقدم الغرب، حيث اتفقت الشعوب الغربية علي كفالة الحق في التعبير عن الرأي، فأنتجت تلك المجتمعات أفكاراً جديدة ساهمت في تحقيق أهدافها وحل مشكلاتها. وعندما تتصارع الأفكار، ويحاول كل اتجاه سياسي وفكري أن يقدم البراهين علي صحة رأيه، تقل الحاجة للعنف، ويتزايد الالتزام بثوابت المجتمع، والاحتكام للشعب في انتخابات حرة. والحوار مقدمة لتحقيق حق الشعب في الاختيار الحر لحكامه ونوابه، فلا يمكن أن ينتخب مواطن بكفاءة دون أن يسمع الأصوات المختلفة، ويعرف أفكار المرشحين وبرامجهم واتجاهاتهم السياسية... وعندئذ فقط لن يختار المواطن نائب الخدمات الذي يحصل علي تأشيرات الوزراء، ولكنه سينتخب نائباً عن الأمة يدافع عن مصالح الشعب كله، ويراقب الحكومة ويحمي حرمات المواطنين. الحوار يوحدنا والحوار يمكن أن يساهم في تماسك المجتمع وتوحده، فقد نكتشف أن هناك مساحة واسعة مشتركة يمكن أن نتعاون فيها، وأهدافاً كثيرة يمكن أن نتشارك في تحقيقها. وأنا لا أعتقد أننا سنختلف حول هدف رئيس هو أننا نريد أن تنهض مصر وتكون دولة متقدمة وديموقراطية، ولها مكانتها المهمة في العالم، وأننا نريد أن يكون لمصر صورة إيجابية في أذهان الناس في العالم كله. إننا جميعاً نحب مصر.. أليس كذلك؟! فلماذا لا نحول عواطفنا إلي قوة دافعة للتقدم، وتحقيق أهداف كبري ؟!. الغناء لمصر لا يعتبر دليلاً علي الحب... لكن البرهان القوي هو أن نعمل جميعاً لتحقيق نهضتها، ونحول خلافاتنا الفكرية والسياسية إلي وسيلة لإنتاج أفكار جديدة، ومشروعات كبري، ونتوحد حول هذه المشروعات. ماذا لو جربنا أن نتحاور بمنطق أننا أبناء هذا الوطن، وأن من حقنا جميعاً أن نحمي وطننا، ونصون استقلاله ونحقق نهضته وتقدمه. ماذا لو جربنا أن نختلف معاً من أجل الوطن ويحترم كل منا حق الآخر في الاختلاف والتعبير عن رأيه، وأن ندرس معاً هذه الأفكار فقد نكتشف أنها يمكن أن تشكل حلاً للكثير من مشكلاتنا. وماذا لو جربنا أن نتفق من أجل الوطن علي مجموعة من الثوابت والأهداف والحقوق؟!. هل نكرر التجربة؟!. أتريدون دليلاً علي أننا يمكن أن نتوحد مهما اختلفنا... لقد حدثت تلك التجربة في تاريخنا، ففي عام 1906 تعددت اتجاهات الحركة الوطنية المصرية واختلفت، وانقسمت إلي ثلاثة أحزاب، تمثل اتجاهات سياسية وفكرية. لكن مصطفي كامل طرح فكرة إنشاء جامعة أهلية.. فتوحدت الحركة الوطنية بكل اتجاهاتها حول الفكرة الرائعة... لأن الحركة الوطنية فهمت دلالات الفكرة، وهي أن الجامعة تشكل رمزاً للاستقلال الثقافي والحضاري والعلمي، ومن الجامعة يمكن أن يتخرج الآلاف من العلماء والمثقفين الذين يمكن أن يكافحوا لتحقيق الاستقلال والجلاء والدستور والمجلس النيابي. لذلك ساهمت الحركة الوطنية بكل اتجاهاتها في إنشاء الجامعة، وتبرعت سيدة تنتمي للأسرة الحاكمة بكل ما تملك لإقامتها... ثم اختارت الحركة الوطنية أحمد لطفي السيد رئيساً لهذه الجامعة. ولقد نجحت الحركة الوطنية المصرية في إنشاء الجامعة التي أصبحت شمساً تنشر نور العلم والثقافة علي الوطن العربي كله.. إنها جامعة القاهرة التي أفخر بأنني أحد خريجيها وأساتذتها، وأعتقد أن كل وطني يشعر بالفخر بهذه الجامعة. لقد توحدت الحركة الوطنية حول فكرة مصطفي كامل، ولم يرفضها أحد لأنها صدرت عن اتجاه سياسي يختلف معه. هذه التجربة تؤكد لنا أننا يمكن أن نتعاون ونحن نختلف، ونتفق ونحن نتحاور، ونتشارك في إقامة مشروعات حضارية لصالح وطننا مهما بلغت خلافاتنا. وهذا الحوار يجعل الحركة الوطنية تصل إلي مرحلة الحكمة التي تجعلنا نتعامل باحترام، فلا يستخدم أحد قوته العضلية أو الصوتية في مواجهة الآخرين. إننا جميعاً أبناء هذا الوطن تعلمنا في جامعاته وتشكلت اتجاهاتنا لصالح نهضته وتقدمه، لذلك لابد أن نتعلم كيف نتحاور لبناء مستقبل أفضل لهذا الوطن... وفي حوارنا يمكن أن نتفق ونختلف فالخلاف يشكل الثراء الثقافي للوطن. من حق مصر علينا أن نتعلم آداب الحوار وأخلاقياته... وأن نبدأ حواراً جاداً حول: كيف نبني مصر القوية الديمقراطية، وكيف يتمتع كل مواطن بحريته وحقوقه.