دعوة إلى القرّاء جميعًا.. هذه الصفحة بأقلام القراء، إذ يكتبها كل مَن يجد فى نفسه شيئا جديرا بالكتابة، ومن ثمّ القراءة، فكل منا صاحِب تجربة فى هذه الحياة، وكل منا له خبراته المتنوعة، ومن المؤكد أن ثمة قراء يملكون قدرة التعبير عن ذواتهم، وبداخلهم الرغبة فى نشر ما تعلّموه من تجاربهم الإنسانية، وما عانوه فى خبراتهم الحياتية، حتى يستفيد الآخرون منها، وهذه -كما تعلمون- هى رسالة الكتابة. أولى خطوات الرحلة بمجرد أن انتهيت من امتحانات عامى الأخير فى جامعة الإسكندرية، عام 1994، حتى توجهت إلى القاهرة فى اليوم التالى.. لم يكن قد مضى على رحيل والدى سوى عامين، لذا استحييت أن أطلب من أمى مليما واحدا وأنا أبدأ هذه الرحلة.. عملت مصححا لغويا فى دار لنشر الكتب التراثية بشارع قصر العينى، وكنت أتقاضى جنيها واحدا فى الساعة.. وكان علىّ أن أعمل ست ساعات يوميا لمدة ثلاثة أيام فى الأسبوع، بينما كنت أتدرب فى «أخبار اليوم» لثلاثة أيام أخرى، وأعود إلى الإسكندرية يوم الجمعة، على متن القطار «القشاش»، الذى لم تكن تذكرته تزيد على جنيهين.. كنت أفطر عادة من محل فول وطعمية فى شارع التوفيقية بتكلفة لا تزيد على جنيه واحد، وأتغدى كشرى متبوعا بطبق أرز بلبن بجنيهين ونصف من الملك الصالح، وفى اليوم التالى أعكس الوجبتين حتى لا أشعر بالملل! ولم أكن أتناول العشاء على الإطلاق.. استضافنى أصدقاء سكندريون فى الاستراحة التى وفرتها لهم شركتهم فى الدقى.. لكنْ كثيرًا ما كنت أعود من عملى متأخرًا فلا يسمعون طرقاتى على الباب.. وكنت أضطر حينها إلى المبيت فى داخل مسجد مجاور، أو أنتظر فى بئر السلم حتى الصباح.. وحين التحقت بجريدة «الأهرام»، انتعش وضعى المالى، فصرت أتقاضى 135 جنيها مكافأة شهرية ثابتة (بعد خصم 15 جنيها ضرائب).. وعندما تم تعيينى زاد الراتب إلى 300 جنيه تقريبا.. فاستأجرت شقة فى المنيل بمئتى جنيه شهريا.. وصرت قادرا على تنويع طعامى، وركوب الميكروباص بدلا من الأوتوبيس ذى العشرة قروش.. وحين دخل الهاتف المحمول مصر، كنت قد ادخرت ما سمح لى باقتنائه، ومن جهازى الإيريكسون العتيق، انطلق أول رنين هاتف محمول فى صالة تحرير «الأهرام»، وبسببه ثارت شكوك بين الزملاء حول ثروتى المفاجئة! كذلك استطعت شراء جهاز تليفزيون صغير، ليحل محل جهاز مستعار من أحد الأصدقاء، وغسالة ملابس صغيرة، أنهت إلى الأبد مرحلة وضع «طشت الغسيل» على البوتاجاز.. كانت حياة أقل من متواضعة، لم تعلم أمى بتفاصيلها إلا بعد عشر سنوات، ونحن نجلس فى مطعم فاخر بالإمارات، خلال فترة عملى بقناة أبو ظبى.. فلم تتمالك نفسها من البكاء.. لكن ابتسامة الثقة والتفاؤل لم تكن تفارقنى فى خضم هذه الحياة القاسية.. هل يعلم القراء الأعزاء لماذا؟ لأننى كنت على يقين من أننى سأحقق أحلامى يوما، وحينها سأشعر بالفخر وأنا أسرد مثل هذه الذكريات على زميل يستهل المشوار، ويعانى من البدايات الصعبة.. كنت أثق فى أن حبى للمهنة، وإيمانى برسالتها، سيكفلان لى الوصول إلى هدفى، دون تفريط فى القيم النبيلة التى تعلمتها من أهلى وأساتذتى، ودون تردد فى استكمال الطريق للنهاية.. هذه السطور مهداة لكل من تفصله عن بداية رحلته التاريخية خطوة، ولديه بعض الشك فى أنه سيصل يومًا ما إلى غايته. الهروب من الأسر أنا فتاة صغيرة، وكنت بريئة جدا، وساذجة للغاية، ومن ثم تعرضت لمعاناة مريرة، وخضت تجربة غير إنسانية بالمرة، فقد باعنى أهلى المساكين، ويا ليتهم قدمونى قربانا بشريا يخلصهم من الفقر والذل والمهانة، يا ليتهم باعونى بثمن «حلو»، يغير حياتهم التعسة، ويجعلهم يعيشون مثل الناس، لكنهم لجهلهم وفقرهم باعونى بثمن بخس، «دراهم معدودة»، وباعونى لمن؟! لشيخ سعودى كبير فى السن، أكبر بكثير من أبى! وقد عرفت، فى ما بعد، أن كل ما دفعه هذا الشيخ الفانى من مال، لقاء شرائى كجارية له إلى الأبد، يعتبر مبلغا زهيدا جدا، إذ يعد أقل من عُشر ثمن سيارته الجديدة! وقد اتفق الشيخ مع أبى على أنه بعد أن يأخذنى معه، ونسافر إلى بلده، سيبعث لإخوتى بعقود للعمل فى السعودية، بمرتبات مجزية جدا، لكنه، بالطبع، لم يفعل ذلك، بل لم يتحدث مع أهلى مرة أخرى! وهكذا سافرت، فجأة، مع رجل غريب عنى، وذهبنا إلى بلد بعيد، يختلف تماما عن بيتى وعالمى، ثم وجدتنى محبوسة بين جدران حجرة مغلقة، فى بيت ضخم، وفى وسط زوجات الشيخ، وأبنائه الكبار، فشعرت بضآلتى، وملأنى الخوف، وغلبنى اليأس، وسيطر علىّ الإحساس بالضياع، ومن يومها بدأت مأساتى الحقيقية. فقد تبين لى أن موقعى فى هذا السجن الكبير مجرد خادمة صغيرة لجميع من فى هذا البيت، من الكبار والصغار، ومطلوب منى أيضا أن ألعب دورًا آخر لا أعرفه، ولا أقدر عليه! وثمة تفاصيل كثيرة، مهينة ومقرفة، لكن لا يصح أن تُكتب هنا، فقد تعرضت فى أشهر قليلة لما لم أكن أتخيل أننى سأواجهه فى يوم من أيام حياتى! ومن ثم فكرت فى طريقة للهروب من الأسر، الذى وقعت فيه دون وعى، وانتهزت أقرب فرصة، وهربت من البيت (السجن) دون أن أعرف إلى أين أذهب؟! وقد ساعدنى أولاد الحلال حتى وصلت أخيرا إلى السفارة المصرية، وهناك تبين لى أن أحدًا لا يستطيع أن ينقذنى مما أنا فيه! إذ إن القانون السعودى، يعطى للزوج ولاية كاملة على زوجته، كما أن الشيخ يعد كفيلا لى، ومن ثم فخروجى من المملكة، متوقف على رغبته الشخصية، رغبته هو وحده! ومرة أخرى ساعدنى أولاد الحلال، حتى وافق الشيخ بعد مفاوضات طويلة، و«استرحامات» ذليلة، على إصدار وثيقة خروج نهائى لى، بعد أن تنازلت له عن كل حقوقى، وبعد أن قال له «أولاد الحلال»: إنهم سيساعدونه فى الحصول على «عروسة مصرية» أخرى، أفضل منى بكثير، وتليق بمقامه العالى! لقد رأيت بنفسى مصريات فى سن الطفولة تزوجن من مرضى، ومعاقين، وحتى مجانين، ومنهن من تعرضن لعمليات اغتصاب جنونية من أهل زوجها، إخواته وأبنائه! كما سمعت عن حالات كثيرة «تقطّع القلب»، فكيف تسمح بلدنا بأن تباع الفتيات المصريات بهذه الطريقة المهينة لكرامة أى بنى آدم؟! أبغض الحلال أنا أستاذ جامعى، تزوجت منذ ربع قرن من زميلة لى، كانت تعمل وقتئذ، مثلى، معيدة فى الجامعة، وفى سنوات زواجنا الأولى كانت ظروفنا الاقتصادية صعبة، فمرتباتنا قليلة، والتزاماتنا كثيرة، وكان كل منا يعمل ويدرس ويجتهد حتى ينتهى من دراساته العليا، فى أسرع وقت ممكن، وعلى الرغم من قلة الإمكانيات المادية، والعمل المتواصل طوال اليوم، فإن هذه السنوات الأولى كانت أسعد سنوات زواجى من هذه الأستاذة الجامعية. ففى سنوات الكفاح هذه، أنجبت زوجتى ابنتى الكبرى، ثم ابنى الوحيد، وفى هذه السنوات، أيضا، حصل كل منا على شهادتَى الماجستير ثم الدكتوراه، ومن ثم استطعنا أن ننتقل من شقتنا الصغيرة، إلى شقة كبيرة فى حى راق، وأدخلنا البنت، ومن بعدها الولد فى مدرسة لغات مشهورة، وحين بدأنا نجنى ثمار تعبنا الطويل، فوجئت بأن الخلافات بيننا بدأت تنفجر فى وجهى، وأخذت المشكلات تتصاعد، يومًا بعد يوم، فى بيتنا الجديد! ولعلك تتساءل، يا عزيزى، عن سبب المشكلات. وكما تعلم فثمة أسباب عديدة للشجار، لكن ربما أهمها، من وجهة نظرى، ما يعبر عنه أحسن تعبير، المثل الشعبى القديم، الذى يقول: «المركب اللى ليها ريسين بتغرق»! ففى السنوات الأولى كان كل منا يلهث وراء أستاذه، ويجد فى عمله مع طلابه، ويواصل دراسته وأبحاثه العلمية، ولذلك لم يك هناك متسع من الوقت للصراع فى ما بيننا، وربما كنت ،من جهتى، أتجاهل بعض تصرفاتها المستفزة، لكن بعدما تحسنت أحوالنا الاقتصادية، واستقرت أوضاعنا الوظيفية، بدأت الخلافات بيننا تشتعل، خصوصا فى طريقة معاملتنا للبنت والولد، ولعل رغبتها الجنونية فى السيطرة على كل شىء، زادت مع تقدمها فى السن، وتغير بعض ملامح شخصيتها، وإحساسها الدائم بأن «رأسها برأسى»، بل هى تتصور، أيضا، أنها تعرف أكثر منى، وتفهم أكثر منى، ورأيها دائما أصح من رأيى! وأعترف أننى عانيت كثيرا جدا فى سنواتنا الأخيرة، إذ حدث بيننا انفصال كامل، من كل النواحى، وأصبح الشىء الوحيد الذى يجمعنا، هو الشكل الاجتماعى! ورغم هذه الحياة غير السوية، فإننى صبرت، وصبرت كثيرا جدا! ولا أدرى كيف ارتكبت هذا الخطأ فى حق نفسى؟! ربما لأنى كنت أخشى من تأثير الطلاق على أولادى، ولعلى كنت أضعف من اتخاذ قرار الطلاق! إلى أن قررت هى أن يتم الطلاق بعد خمسة عشر عاما من الزواج الرسمى! وعندئذ فقط تحررت من قيود مادية، وعصبية، ونفسية كثيرة. تركت لها الشقة الغالية، لتبقى فيها مع ابنتى وابنى، واستأجرت شقة صغيرة، وبدأت أبحث عمن يمكن أن تناسبنى، وتتوافق معى، لكى نكمل معًا مشوار الحياة، فقد اعتدت على حياة الأسرة، وكان من الصعب علىَّ أن أعيش وحيدًا، خصوصا أننى لم أجرب الوحدة طوال حياتى. كنت أعلم أن الوصول إلى من تناسبنى، فى هذه السن- أمر صعب، نظرًا لطبيعة عملى، وأسلوب حياتى، وقلة علاقاتى الاجتماعية، ومن ثم عانيت من الوحدة لنحو ثلاث سنوات، قابلت خلالها سيدات عدة، بل وآنسات أيضا، لكنى لم أوفق مع أى منهن! إلى أن أنعم على المولى، عز وجل، ب«ست بيت» طيبة وهادئة وكريمة، على العكس تماما من زوجتى الأولى، وقد عوضنى الله بها عن سنوات طويلة من الوحدة والحرمان. ومن خلال تجربتى، عرفت أن كثيرًا من الزيجات فى مجتمعنا فاشلة، أو بتعبير أخف غير سعيدة، لكننا محكومون بتقاليد عتيقة، وبمشكلات اقتصادية شديدة، تُرغم الأزواج والزوجات على الاستمرار فى علاقات زوجية فى غاية التعاسة! فى حين أن ديننا الحنيف لا يرضى عن مواصلة مثل هذه الحياة البائسة! أنا، بالتأكيد، لا أدعو الناس إلى الطلاق، فلا يوجد ما هو أفضل من تماسك الأسرة، وبقاء الأب والأم مع أبنائهما، ولكن الأسرة التعيسة، مأساة إنسانية، تؤذى جميع أفرادها، والأبناء يتعرضون لضرر أكبر حين يعيشون فى شجارات لا تنتهى بين الأب والأم. والحق سبحانه وتعالى، لم يكتب علينا الشقاء، ومن ثم فكل منا مسؤول مسؤولية كبيرة عن سعادته أو تعاسته، ولذلك علينا أن نسعد أنفسنا فى هذه الحياة القصيرة، فقد قال تعالى فى قرآننا العظيم: «قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون». (الآية 32 من سورة الأعراف).