الأسئلة العديدة المطروحة بشأن توقف نشاط الوكالة الأمريكية للتنمية فى مصر، وتأثيراتها على البرامج والمشروعات التى كانت تمولها، طرحناها على الدكتورة رانيا المشاط وزيرة الدولة للتخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى فى أول حوار تجريه حول هذا الملف منذ إعلان تجميد المعونة الأمريكية بمصر والعالم. حسب بعض بيانات غير رسمية، إجمالى قيمة مشروعات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID التى تم إلغاؤها فى مصر تتجاوز ال600 مليون دولار. هل هذا الرقم دقيق؟ - هذا الرقم غير دقيق، لكنه يعكس بشكل عام انطباعًا شائعًا فى مصر بشأن حجم برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية فى مصر، وهو ما يزيد من أهمية توقيت هذه المقابلة وذلك لأنها سوف تسهم فى توضيح الصورة، دعينى أشرح لك: أولا، المبلغ المخصص لجميع اتفاقياتنا الاقتصادية الثنائية مع الوكالة كان يتراوح بين 100-120 مليون دولار سنويا، وبالرغم من العلاقات التاريخية والاستراتيجية التى تربط البلدين، فهو مبلغ صغير فى سياق محفظة التعاون الإنمائى وتمويلات التنمية الميسرة لدى مصر. ثانيا، وهذا مهم جدا أن نوضحه، وهو أن هذا المبلغ لم يكن يخصص لصالح ميزانية الحكومة ولم تكن تحصل عليه الوزارات المستفيدة من المشروعات التابعة للاتفاقيات المختلفة، كما هو حال الشراكة مع العديد من شركاء التنمية، بل فى أغلب الأحيان يتم تخصيصه للمقاولين المنفذين للمشروعات لتنفيذ الأنشطة الممولة من خلال الوكالة وفقا للاتفاقيات سالفة الذكر، ويتم اختيار هؤلاء المقاولين (وهى جهات غير حكومية) من خلال الوكالة اتباعا لنظام عمل الوكالة على الصعيد الدولى، شريطة حصول هؤلاء المقاولين على جميع الموافقات الوطنية اللازمة. وبالتالى، فالمبالغ المخصصة من خلال الوكالة بالاتفاقيات المختلفة لا تدرج بالميزانيات الخاصة بالوزارات المستفيدة من المشروعات والأنشطة التابعة للاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين الحكومة المصرية والوكالة، ومن المهم توضيح ذلك لأن الوضع يختلف بأغلب الدول التى تعمل بها الوكالة، وهو ما يزيد من قدرة الدولة المانحة على استخدام المساعدات الاقتصادية كوسيلة ضغط سياسى. إذا كانت الحكومة المصرية لا تحصل على دعم مالى من الوكالة الأمريكية، فكيف كانت آليات عملها؟ - الوكالة الأمريكية كانت تعمل فى مصر من خلال برنامج التعاون الاقتصادى المصرى- الأمريكى، والممثل فى الاتفاقيات الثُنائية الموقعة بين البلدين من خلال وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى (وزارة التعاون الدولى سابقا)، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. ويشكل هذا البرنامج من أكثر من عشرة اتفاقيات ثنائية بين الطرفين تشمل أبرز القطاعات التنموية مثل الصحة، والتعليم، والسياحة، والتحول الأخضر، والزراعة، وغيرها. معظم هذه الاتفاقيات تم توقيعها عام 2014 وكان يتم تجديدها سنويًا، وبعض من تلك الاتفاقيات تم إطلاقه فى الأعوام التالية لمواكبة توسع التعاون بين الجانبين فى قطاعات جديدة. ومن المهم توضيح أن مدة وقيمة الاتفاقيات تختلف عن بعضها البعض؛ فعلى سبيل المثال، تمتد اتفاقية التعاون المصري- الأمريكى فى العلوم والتكنولوجيا من عام 2014 وحتى عام 2029، بميزانية إجمالية قدرها 34 مليون دولار أمريكى، أى ما يعادل أقل من 2.3 مليون دولار (فى المتوسط) سنويًا على مدار فترة الاتفاقية. أما مبادرة تغيّر المناخ، فقد تم توقيعها فى عام 2022 وكان من المخطط أن تمتد حتى عام 2027 بميزانية قدرها 25 مليون دولار، أى بحوالى 5 ملايين دولار سنويًا. بشكل عام، كان يتم تخصيص ما يُقدّر بنحو 100 إلى 120 مليون دولار سنويًا للبرنامج ككل فى مصر، وكانت تُوزَّع هذه المخصصات على الاتفاقيات المختلفة بشكل سنوى، بما يتناسب مع الحجم الإجمالى لكل اتفاقية، وتُستخدم فى تقديم الدعم الفنى للبرامج والمشروعات التابعة لكل اتفاقية. من الذى يحدد مجالات برامج التعاون بين مصر والUSAID؟ - تلك البرامج والمشروعات كان يتم التفاوض بشأنها بين الوزارة والوكالة وفقا لمطالب واحتياجات وأولويات جميع الوزارات والجهات الوطنية المستفيدة من البرنامج، وذلك لأن برنامج التعاون الاقتصادى المصرى- الأمريكى، مثله مثل جميع أطر التعاون التى تديرها الوزارة مع جميع شركاء التنمية، يرتكز بشكل أساسى على مفهوم «الملكية الوطنية». هل هناك أى مشروعات للوكالة الأمريكية ما زالت مستمرة فى مصر؟ - فى نهاية شهر مارس من هذا العام، أبلغت الإدارة الأمريكية الحالية الكونجرس عن وقف حوالى 85% من جميع أنشطة الوكالة حول العالم، استنادا إلى الأمر التنفيذى رقم 14169 الصادر عن الرئيس ترامب فى يناير، وكان التفسير أن ذلك يأتى فى إطار إعادة هيكلة شاملة تهدف إلى دمج برامج التنمية ضمن التوجهات الاستراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية. وفى هذا الصدد، تم وقف جميع المشروعات الممولة من الوكالة فى مصر باستثناء بعض الأنشطة التابعة لاتفاقية «تحسين النتائج الصحية للمجموعات المستهدفة» واتفاقية «مبادرة تغير المناخ»، وتقوم الآن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى والجهات الوطنية المستفيدة من هاتين الاتفاقيتين بالتنسيق مع الجانب الأمريكى وكذلك المقاولين المنفذين للأنشطة المستمرة لاستكمال تلك المشروعات على أكمل وجه وتعظيم الاستفادة منها لصالح الفئات والقطاعات المستهدفة. ومع ذلك، من المهم أيضا توضيح أن معظم برامج مشروعات الوكالة التى لم تتوقف حول العالم حتى تاريخه تركز على تقديم المساعدات الإنسانية فى الدول الأقل نموا والأشد احتياجا، مثل اللاجئين والمجتمعات المتأثرة بالنزاعات أو الكوارث الطبيعية ومكافحة المجاعات. وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى هى الجهة الوطنية المسؤولة عن إبرام وتفعيل اتفاقيات مشروعات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، بالإضافة إلى تقييمها بشكل دورى، وهذا أمر مفهوم. لكن فى حال صدور قرار مفاجئ بإلغاء معظم هذه المشروعات، ما حدود اختصاص الوزارة ومسؤولياتها فى التعامل مع التحديات التى خلّفها هذا الوضع، ولا سيما تلك التى تكتسب طابعًا ملحًّا ولا تحتمل التأجيل؟ - الوزارة هى بالفعل الجهة الوطنية المنوطة بتعزيز التعاون الاقتصادى والتنموى مع شركاء التنمية الثنائيين ومتعددى الأطراف بما يدعم رؤية الدولة التنموية ويعزز التكامل والاتساق مع هذه الشراكات، بما فى ذلك الشراكة مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وبالتالى، فالوزارة هى أيضا الجهة الوطنية المسؤولة عن تنسيق الجهود الوطنية الخاصة بالتعامل مع أية تحديات ناتجة عن وقف عمل الوكالة حول العالم. وفى هذا السياق، أود التوضيح بأن قرار إدارة الولاياتالمتحدةالأمريكية الجديدة بشأن تعليق المساعدات الأمريكية الخارجية (الاقتصادية) لنحو 90 يومًا من خلال إيقاف برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية حول العالم، وبعد ذلك الإعلان عن وقف معظم برامج ومشروعات الوكالة بشكل تام، لم يكن مفاجئا، حيث إن الوزارة والجهات الوطنية المعنية كانت تتابع عن كثب الحملات الانتخابية لكلا المرشحين الرئاسيين خلال النصف الثانى من عام 2024، وكنا نلاحظ أن حملة الإدارة الأمريكية الحالية كانت تركز على إعادة تنظيم العلاقات الخارجية للولايات المتحدة كأولوية رئيسية، وقد عبّر عدد من ممثلى هذه الإدارة، فى أكثر من مناسبة، عن أن مهام الوكالة والكثير من برامجها فى مختلف أنحاء العالم تتعارض مع توجهات الإدارة للسياسة الخارجية الأمريكية. وبناءً على ذلك، وقبل أشهر من الإعلان الرسمى الخاص بالإدارة الأمريكية الحالية بشأن وقف 85 % من برامج الوكالة الصادر بشهر مارس الماضى، بدأت الوزارة فى عقد مشاورات على المستوى الوطنى وذلك لتقييم الآثار الناتجة عن إنهاء مشروعات الوكالة فى مصر بشكل فورى، اتباعا لتوقع الوزارة بزيادة احتمالية حدوث ذلك، وتم التنسيق مع جميع الجهات الوطنية المستفيدة من برامج الوكالة قبل وقفها، بغرض دراسة مدى تأثر كل جهة من وقف عمل الوكالة فى مصر بهدف تحديد الأولويات من منظور وطنى وبحث السبل البديلة إن تطلب الأمر وفقا لتلك الأولويات. تجميد الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID لم يؤثر فقط على المشروعات المباشرة التابعة لها لكنه أيضا أثر على تمويل الأنشطة التنموية لمنظمات الأممالمتحدة والبرنامج الإنمائى وترصد العديد من التقارير الدولية انكماش أنشطتها التنموية.. هل هذا الأثر واضح وحادث فى مصر؟ - تواجه العديد من المنظمات الدولية ومتعددة الأطراف، لا سيّما وكالات الأممالمتحدة حول العالم، تحديات متزايدة تتعلق بالتمويل، إلا أن ذلك لا يرتبط بالضرورة بشكل مباشر بتعليق أنشطة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بقدر ما يرتبط بقرار الإدارة الحالية بتعليق التمويلات التنموية الأمريكية الخارجية بشكل عام. ويتضح هذا الأمر بشكل أكبر عندما نوضح الكيفية التى كانت تعتمدها الولاياتالمتحدة فى تمويل وكالات الأممالمتحدة قبل صدور قرار الإدارة الحالية، خاصة فيما يتعلق بجهود الوكالات الأممية فى الإغاثة الإنسانية، وهى جهود لم تكن تستفيد مصر منها، ودعم الدول المتأثرة فى مواجهة تداعيات الفيضانات والزلازل والبراكين وغيرها من الكوارث، علما بأن المساعدات الإنسانية تحظى على بما يقارب من 50 % من إجمالى ميزانية الأممالمتحدة على الصعيد الدولى. وكالات الأممالمتحدة كانت تتلقى التمويلات الأمريكية عبر إما المساهمات المقررة (Assessed Contributions)، وهى مبالغ يتم اعتمادها من خلال الكونجرس، وتُحوّل من وزارة الخزانة الأمريكية إلى الميزانية العامة للأمم المتحدة حيث تُستخدم فى تغطية النفقات التشغيلية الأساسية الخاصة بالوكالات الأممية المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، كانت تعتمد الوكالات الأممية على المساهمات الأمريكية الطوعية (Voluntary Contributions)، وهى تمويلات تقديرية تقدمها جهات أمريكية محددة، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو وزارة الزراعة الأمريكية، لبرامج أو مشروعات بعينها داخل وكالات الأممالمتحدة المختلفة. فى بداية شهر مايو الماضى، أعلن البيت الأبيض عن ميزانية إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والتى تتضمن توصيات بشأن مستويات التمويل التقديرية للعام المالى 2026، والتى يتم تقديمها قبل الخطة المالية الكاملة، وقد شمل هذا المقترح خفضا إجماليا قدره 163 مليار دولار فى الإنفاق التقديرى غير الدفاعى، ما يمثل تقليصا بنسبة 23 ٪، وهو أكبر تخفيض من نوعه منذ عام 2017. تضمن ذلك المقترح خفضًا بقيمة 1.716 مليار دولار فى المساهمات الأمريكية الإلزامية والطوعية للمنظمات الدولية، حيث تقترح الميزانية تعليق الكثير من المساهمات الإلزامية وجميع المساهمات الطوعية المقدمة إلى الأممالمتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، بما فى ذلك الميزانية العادية للأمم المتحدة، ومنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، ومنظمة الصحة العالمية، ذلك بالإضافة إلى خفض بقيمة 1.614 مليار دولار فى التمويل المخصص لبعثات حفظ السلام. بدون شك أن الأممالمتحدة بجميع وكالاتها من ضمن أبرز وأهم شركائنا فى التنمية، وأن الحكومة المصرية، من خلال وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى، قامت بالتنسيق مع جميع الوكالات الأممية مثلما تم مع الجهات الوطنية كما ذكر من قبل، وذلك لدراسة مدى تأثر أنشطة الوكالات الأممية فى مصر من وقف التمويلات الأمريكية، وبحث سبل توفير الدعم غير المادى المناسب من خلال تعزيز شراكات الوكالات الأممية فى مصر مع جهات مانحة أخرى. قرار إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية صاحبه أيضا تغيير معلن فى أولويات الإدارة الأمريكية والتى خلت من ال gender equality ومكافحة تغيرات المناخ وهذا بطبيعة الحال سيكون له أثر على أجندة التنمية الدولية فهل يتأثر تطبيق أجندة التنمية فى مصر بسبب تغيير أولويات التمويل الأمريكية؟ - أجندة التنمية المصرية هى أجندة وطنية فى المقام الأول، تعتمد بشكل رئيسى على مفهوم الملكية الوطنية (national ownership) ولم تتأثر من التغييرات المعلنة فى أولويات الإدارة الأمريكية لسببين رئيسيين. أولا، محفظة التعاون الإنمائى والتمويلات التنموية الميسرة لدى مصر قد تخطت 40 مليار دولار، وهى الأسرع نموا والأكثر تنوعا فى المنطقة، وهو إنجاز عملنا دون كلل على تحقيقه منذ عام 2019. وبناء على ذلك، فإن أى تغيّر مفاجئ فى أولويات أى من شركائنا لن يؤثر علينا بشكل ملحوظ. ثانيًا، ورغم أن التعاون الإنمائى بين مصر والولاياتالمتحدة من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية كان يعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين، إلا أن القيمة المالية لهذا التعاون التنموى، والتى كانت تتراوح بين 100-120 مليون دولار سنويا أى ما يعادل ما يقرب من 0،3 % من إجمالى حجم محفظة التعاون الدولى المصرية، لم تكن كبيرة كما تم التوضيح سابقا. ومع ذلك فإن جهودنا المشتركة مع الجانب الأمريكى فى مجال الاستدامة البيئية، وخصوصا فيما يتعلق بحماية واستدامة المناطق المحمية، مستمرة. كيف سيكون شكل التعاون التنموى بين البلدين بعد خروج الوكالة الأمريكية؟ - العلاقات التنموية بين مصر والولاياتالمتحدة هى علاقات تاريخية واستراتيجية، وبالرغم من وقف عمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية حول العالم، إلا أن تلك الشراكة الاستراتيجية سوف تستمر من خلال قنوات مختلفة، أى عبر وكالة التجارة والتنمية الأمريكية (USTDA) ومؤسسة تمويل التنمية الدولية للولايات المتحدة (DFC) على سبيل المثال، وذلك حرصا من كلا الطرفين على استكمال هذه الشراكة. 2