لا اعرف بماذا نسمي التسريبات التى عرضها عبدالرحيم على في برنامجه خلال الأسبوع الحالي والتى جذبت الأنتباه وأستحوذت على نصيب وافر من حوارات الناس. بالطبع مسألة الحريات كانت في جوهر الموضوع خاصة ان كثير من التسجيلات يثبت أتهامات طالما طالت أجهزة الأمن بأن الخط الفاصل بين ما هو شخصي وما هو عام مجرد خط وهمي. بجانب هذا الأمر هناك عدة ملاحظات استوقفتني في موضوع التسريبات.
أولا ان التسريبات لاعب رئيسي في صنع الأحداث في مصر من قبل الثورة. لاحظ ان فيديوهات عرضت قبل ثورة يناير كان له بالغ الأثر في شحن الناس ضد دولة مبارك المستندة على قوة البوليس. منها تسجيلات شهيرة مثل عماد الكبير، وأخر لضابط يصفع مواطن مرات عديدة داخل قسم شرطة، وأخر لشخص ما يعذب فتاة بداخل قسم شرطة وهي تستغيث "معلش يا باشا". فالديوهات او بالأحرى الفيسبوك والتويتر والنت عموما كانوا أداة لفضح النظام السابق. فهل يخشي الساحر الذي أستخدم النت ان ينقلب السحر عليه؟
ثانيا، ان التسريبات ذات الطابع المتدني اخلاقيا لا تستحوذ على اهتمام مجتمعي كبير (اين فديوهات قضية الوكيل السابق لشركة بي ام دبليو؟) في حين ان اي تسجيل فيديو او حتى صوتي لأي شيء سياسي ذو قيمة ومرتبط بالمسار السياسي يتحول في لمح البصر الى حديث الساعة. حدث هذا من قبل وأثناء وبعد ثورة يناير. هل تذكرون فيديو لوائل غنيم وهو يرقص في مكتبه مع اصدقائه أبتهاجا برحيل مبارك؟ وقتها انتقد بعض موالين مبارك طريقة ابتهاج غنيم وقارنوا بينها وبين بكائه قبلها بأيام عندما حل ضيف على منى الشاذلي في العاشرة مساء.
ثالثا، ليس كل التسريبات السياسية تلقى رواج بنفس الطريقة. لكن بعض هذه التسريبات ينفجر في ثواني تاركا ورائه قضية كبرى. وأعتقد بدون اي مبالغة ان أكبر تسريب حدث في 2013 كان نقل لقاء مرسي مع بعض السياسين لبحث أزمة مياه النيل. كان مرسي بمفرده يعرف ان اللقاء منقول على الهواء لكنه لم يجد الكرم الكافي للأخبار ضيوفه! فكانت النتيجة ان المجتمع تعرف على انحدار اخلاقي لرئيس لا يعرف المصلحة الوطنية! او لعله كان يعرف وكان يريد ان يعصف بالمصلح الوطنية المصرية لغرض ما في نفس الأخوان.
رابعا، ان احد ليس محصنا ضد التسريبات فهي لا ترحم احد ولا تقف حتى امام اعتى اجهزة المراقبة. فمن كان يتخيل ان حسني مبارك "الي زهقنا منه 30 سنة"، سيتحول تسريب صوتي له الى حديث المدينة لانه يتكلم عن بعض افكاره ومشاعره بدون منتاج. لا اعرف ماذا حدث بالطبيب الذي سرب التسجيل الصوتي لمبارك لكن ما يعنيني هو الأهتمام المجتمعي الشديد بما يقوله مبارك!
خامسا. ان مسألة التسريبات ليست بدعة مصرية او خاصية سياسية لنا. فأدنى نظرة لما يدور في العالم، شرقي كان او غربي تظهر بأن هذه مسالة مستخدمة في كل الدول. بعض التسريبات تأتي عن طريق المحترفين وبعضها يأتي بالخطأ من الشخص نفسه وهو أخطر التسريبات على الأطلاق. من يذكر عمدة نيويورك الذي ارسل بالخطأ صورة مخله لنفسه الى احدى صديقاته فعصفت بمستقبله السياسي! الصورة لم تصل الى صديقته ولكنه أخطأ وأرسلها عبر التويتر الى كل متابعيه!!
سادسا. قبل ثورة 30 يونيو كانت هناك فاجعة امام اعين كل المصريين. لم تكن تسريب ولكن نقل على الهواء صوت وصورة. وقتها كانت هناك بعض المظاهرات ضد الأخوان امام الأتحادية، فحدث ما لم يكن في حسبان أحد. الشرطة كانت تبطش ببعض المتظاهرين العزل ورأى الناس بأم أعينه الداخلية وهي تجرد مواطن من ملابس وتنهال عليه ضربا مبرح! ولما كان هذا على الهواء لا تسريب فيه ولا تلفيق، حدثة صدمة مجتمعية لا مثيل لها!
سابعا. كانت التسريبات الأهم قبل ثورة يونيو تخص الأخوان، لكن بعد الثورة تحول الأمر الى الأبطال الجدد. وكأن تركيبة المجتمع المصري "ان لم تستطع ان تكون أفضل من غريمك، فما عليك الا ان تكسره". فماذا حدث؟ بدأ الزج بأسم الفريق اول عبدالفتاح السيسي في كل ما له علاقة بالرئاسة. على الرغم بان الرجل نفى الأمر بشدة. ومع مرور الوقت أصدر قرار بوقف اي حملة تنادي به رئيس. وما ان حدث ذلك حتى تحول الأمر الى اعلان صريح بمهاجمته. وكان له نصيب الأسد من التسريبات! وتبارت المواقع الأخوانية مثل رصد وغيرها في نشر كل ما له علاقة بالرجل بغرض التجريح فيه والتشكيك في كل ما له علاقة به!
ثامنا. استمرت التسريبات للسيسي واستمر معها مسلسل الطعن فيه، ولم يلقى احد بال لهذا الأمر ولم يقل احد ان هناك حقوق وحريات او اي شيء يحميه الدستور! هل تذكر قصة الرؤية التى رواها السيسي لياسر رزق رئيس تحرير المصري اليوم وكيف تحولت لمادة مغرية لطعن الأخوان ومحبيهم في شخص الرجل؟ بيد ان هذا الأمر لما بدى وانه سيتكرر مع النشطاء قامت قيامة بعضهم وهاج وماج وكأن الأمر يعد تعدي على حياته وخصوصيته!
تاسعا. لست هنا في معرض تقيم الخطأ والصواب من التصرفات ولكني ارصد وأحلل المسألة من زاوية سياسية ومجتمعية. اما القانون فله شأن أخر. لكن من الناحية الأدبية والأخلاقية على الأقل لا يمكن قبول اي تعدي على الحرية الشخصية. ونبي الله الأعظم صل الله عليه وسلم له حديث شهير يقول فيه محذرا "لو تكاشفتم لما تدافنتم". اي لو عرفنا حقيقة ما يدور بداخل كل واحد منا فسيبغض الناس بعضهم بعض لدرجة ان احد لن يدفن احد! وفي هذا يجب ان نتأمل، لماذا يسوء ظن من يعمل في الأجهزة التى تتنصت على الناس؟ لماذا تجده مكفهر ومتجهم ولا يثق في احد وشايل هم الدنيا! يبدو انهم يحملون ما لا يجب ان يحمله بشر.
عاشرا. اذا كانت الدولة قادرة بكفأة على الرصد والمتابعة بهذه الدقة المتناهية والوضوح حتى في أحلك الظروف (لاحظ ان بعض التسجيلات تم وقت أقتحام امن الدولة نفسها) فلماذا لا تقوم بتحليل المعلومات بنفس القدرة والكفأة! اعرف ان الدولة استطاعة ان تصمد وتصبر لمدة تناهز الثلاثة أعوام الى ان أفرجت عن بعض ما تملك ضد من تظن انه ضد المسار السياسي الحالي، في حين أظن شخصيا انه ضد ليس ضد المسار ولكن مع تلميع نفسه. وأعرف ان الدولة قصدت ان تكشف لمحة لا تذكر مما تعرف. وأعرف ان الدولة تملك ما هو أكثر من ذلك بكثير. واعرف ان التوقيت قد يكون من أفضل ما يكون في تقدير الدولة. لكن، من قال ان هذا هو أفضل طريق؟ اذا كنا نرصد بأمتياز ونحلل بمرتبة جيد جدا فلماذا يكون التصرف بعدها ضعيف؟
أخيرا، اظن ان هذه التسريبات تحذير "خفيف" الحدة يقول لبعض الناس ان "العيار الي مايصبش يدوش". وقد يصيب في مقتل. وأظن ان العيار احدث دوي قوي جدا لدرجة اني لا اجد اي رد فعل مناسب لأي قوى سياسية. فهل تخشي القوى السياسية من مزيد من التسريبات فأثرت السلامة؟ ام ان النشطاء الذين اصابهم العيار لا يكترث بأمرهم احد من الساسة؟ بيد اني شخصيا اظن ان استعمال التسريبات لن ينتهي بل ستستمر التسريبات كلاعب اصيل من ضمن تشكيلة المبارة السياسية الأجتماعية. ولا احد يعرف متى تكون اللعبة في صالحه ومتى يكون الكرة التى يضرب بها. في كل الأحوال تبقى الحكمة الخالدة، "امشي عدل يحتار عدوك فيك".