كان الرجل مملًّا جدًّا جدًّا، ومع ذلك بدا لى طيبًا ومهذبًا رغم ثقل ولزوجة الصمت الرهيب الذى كنت مضطرًّا إلى الانحشار فيه معه زمنًا طال أكثر من قدرتى على الاحتمال. ولكى أساعد نفسى على عبور كل هذا الملل والخروج منه بأقل قدر ممكن من الأضرار العصبية والنفسية تركت عقلى يسرح ويشطح فى أى حاجة والسلام. ولسبب ما زلت أجهله فقد ذهب بى السرحان والانشطاح إلى نص طريف فى جدته وساحر فى فكرته، كتبه قبل أكثر من قرنين المفكر والمصلح الاجتماعى الفرنسى ذائع الصيت المرحوم سان سيمون، وقد أطلق الناس على هذا النص اسم «أمثولة سان سيمون» ومن يومها وحتى الساعة هو ومبدعه وحدة واحدة لا تنفصم!!
المهم.. تذكرت هذه «الأمثولة» الرائعة وصاحبها وابتسمت، ثم وجدت نفسى رغما عنى أسأل الرجل الطيب الصامت الممل المحشور معى، مباشرة ومن دون مقدمات: حضرتك تعرف المرحوم سان سيمون؟!
أدهشنى أن الرجل لم يندهش من السؤال، لكنه ظل على صمته واكتفى بأن أتحفنى ببقية ابتسامة هزيلة ألحقها بإيماءة خفيفة تركنى أفهم منها أنه فعلا ولحسن الحظ يعرف هذا المصلح والمفكر الشهير، غير أننى تجاهلت معنى الإيماءة وافترضت أن الرجل لا يعرف حقا المرحوم سان سيمون، وانطلقت أشرح بحماس حكاية مذهب «السان سيمونية» المنسوب لهذا المفكر الذى عايش أحداث الثورة الفرنسية وأنفق عمره كله وهو يدعو ويبشر بأفكار تقدمية وخيالات نهضوية، لها جميعا تقريبا طعم الأحلام، ولكنها ترسم صورة لمجتمع إنسانى فاضل ونموذجى يزهو ويزدهر بالبراءة والتطهر من كل صنوف الظلم والعسف والجور والاستغلال والتخلف.
أنهيت المحاضرة تلك ونظرت فى وجه الرجل فلم أعثر لها على أى أثر من أى نوع، لكن هذه الحقيقة المادية لم تفت فى عضدى ولم تنل من تصميمى على نقل شطحتى من حيز عقلى إلى الحيز العلنى الصامت الممل، لهذا أمعنت فى الجرأة وعدت أسأل رفيق الملل إن كان يعرف نص «أمثولة سان سيمون».. طبعا لم يجاوب ولا اندهش، ولا حتى استعان بأى إيماءة وإنما بقى شاخصا لى بملامح حجرية تماما، وكان ردى أنا أن تجاهلت تجاهله وضغطت بشدة «متعمدا» على طيبته وأدبه الصامت فأسرفت فى الوقاحة، وعدت أسأل: طيب حضرتك تعرف معنى كلمة «أمثولة»؟!
هذه المرة فاجأنى بأنه حطم صمته وأسمعنى صوته لأول مرة منذ انحشرنا معا فى زنزانة الملل، إذ قال باقتضاب: أيوه أعرف معناها..
فرحت جدا وفاض حماسى، وانطلقت أشرح كيف أن نص «أمثولة سان سيمون» يتمحور حول سؤال افتراضى مزدوج شطره الأول يتعلق بما يمكن أن يحدث لفرنسا لو فقدت فجأة أهم علمائها فى الفيزياء والكيمياء والهندسة والصيدلة والطب والرياضيات، وأهم أدبائها وشعرائها ورساميها وموسيقييها وصناعها وعمالها المهرة وأبرع حرفييها من نجارين وسباكين وحدادين وخبازين وساعاتية.. إلخ؟
وقد كانت إجابة سان سيمون، أن فرنسا لو فقدت كل هؤلاء فإنها ستنهار وستسقط فورا، وستفقد مكانتها بين أمم الدنيا وتصبح جسدا بلا روح.
أما الشطر الثانى من سؤال المفكر الفرنسى، فقد كان عن حال فرنسا إذا احتفظت بصناعها ونوابغها ومبدعيها جميعا، لكنها بالمقابل فقدت شقيق الملك وزوجته وأى عدد من الأمراء والنبلاء وكل الوزراء والمفتشين والمحافظين وكبار رجال الدين والأثرياء الكبار وباقى الطبقة المترفة فى المجتمع.. ماذا ستخسر؟! وقد أجاب سيمون بأن رحيل هذا الصنف الأخير من الناس سيؤدى إلى شعور كثير من المواطنين الطيبين بشىء من الألم والحزن، غير أن الأمة الفرنسية لن تخسر أى شىء نتيجة غياب هؤلاء، بل ربما تكسب.
ختمت هذا الشرح للأمثولة «السان سيمونية» وعدت أتفرس فى وجه رفيقى فهالنى اهتمامه البادى من نظراته التى زايلها الخمول واكتست ببريق لا تخطئه عين، وهو أمر أنعش معنوياتى وشجعنى على سؤاله من جديد: ماذا يا صديقى لو حاولنا تمصير الشطر الثانى من سؤال هذه «الأمثولة»، يعنى تخيل معى حضرتك حالتنا وصورتنا وطعم دنيانا لو لم يكن سوء الحظ وقدرنا الأسود ابتلانا بجماعة الشر الإخوانية لكى تلوث حيواتنا وتسوّئ سمعتنا وتعرقل تقدمنا وتسوّد عيشتنا كل هذا الزمن.. ألا تشاركنى الرأى بأن الحياة من غيرها كان لونها غالبا سيصير بمبى مسخسخ على الأقل؟!
رد رفيقى بضحكة رائقة مجلجلة بددت الصمت والجهامة والملل.