قبل نحو خمس أو ست سنوات ذهبت إلى حفل الصباح الذى يبدأ العاشرة، لأشاهد فيلما عن منيرة المهدية «سلطانة الطرب»، كما كانوا يطلقون عليها، كان الفيلم يُعرض ضمن «بانوراما السينما الأوروبية»، تصوّرت أن لا أحد يعرف الست منيرة مطربة «أسمر ملك روحى»، و«بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة»، و«يا حبيبى تعالَ بالعَجل» بفتح العين بالطبع لا كسرها. يروى عنها أن مجلس الوزراء كان يجتمع خلال الثلاثينيات من القرن الماضى فى عوّامتها وكان يحلو لهم أن يتناولوا الشامبانيا فى حذائها، ناهيك بأن سيجارتها كان يتم إشعالها بورقة من فئة المئة جنيه، عندما كان الجنيه المصرى يعلو فى قيمته على الجنيه الذهب، أشياء عديدة التصقت بهذه الفنانة الكبيرة ربما حملت قدرًا من المبالغات، يحتفظ لها التليفزيون المصرى بتسجيل وحيد أجرته الراحلة أمانى ناشد، عاشت منيرة فى زمن كانت هى السلطانة والملكة المتوّجة على عرش الغناء، وجاءت أم كلثوم من قريتها «طماى الزهايرة» فأطاحت بها وصارت منيرة من بعدها مجرد ذكرى.
مَن يهتم بمشاهدة فيلم تسجيلى عن هذه الفنانة ومن خلالها يرصد تلك الحقبة الزمنية، وتوقّعت أن الصالة خاوية، ولكنى اكتشفت أن الحصول على مقعد خالٍ هو المستحيل، شاهدت الفيلم جالسًا على سلالم دار العرض، الفيلم إنتاج مصرى فرنسى، ولم أدرِ فى البداية سر هذا الزحام، خصوصًا أن الحاضرين كانوا أطفالًا أو فى مرحلة المراهقة، واكتشفت بعدها أن ماريان خورى رئيسة البانوراما، عقدت اتفاقًا مع إدارة مدرسة فرنسية لتحديد سعر رمزى للتذكرة، وتدافع الطلبة والطالبات وتعرّفوا على جزء حميم من تاريخ مصر.
تُدرك ماريان أن المهرجان ليس للنقاد والصحفيين، وأنه أساسًا للجمهور، وإذا لم يأتِ الناس فلا داعى لتبديد المال والجهد، غدًا تُفتتح البانوراما السادسة للفيلم الأوروبى، لنشاهد قرابة 60 فيلمًا وضيوفًا عربًا وأجانب، وندوات، ولمحة وفاء للراحل د.رفيق الصبان، حيث تهدى إليه ماريان هذه الدورة، كان د.رفيق قبل رحيله كلما التقيته يوصينى أن لا تفوتنى أفلام البانوراما، فهى إحدى المرجعيات المهمة التى تلجأ إليها ماريان فى الاختيار، بالإضافة إلى ذلك تُقدم للسينما المستقلة مساحة أطلقت عليها «زاوية» تسمح بعرض هذه الأفلام طوال العام للجمهور فى دور العرض التى تملكها شركة يوسف شاهين. ماريان تُقدّم كل ذلك بلا صخب أو ضجيج، الأوفق أن أقول بهدوء وهمس.
ثقافة المتفرج المصرى السينمائية لا تتجاوز حدود الفيلم الأمريكى، هذا هو ما يألفه ويعرفه أغلبنا، حيث إن الإعلام الرسمى والخاص أسهم فى تأكيد ذلك، فلا وجود إلا للفيلم الأمريكى على أغلب القنوات التليفزيونية، قبل عشر سنوات كانت لدينا مساحة لتقديم برنامج «بانوراما فرنسية» على قناة التليفزيون الثانية الرسمية، ثم توقّف لأسباب غير معروفة، وكانت نوادى السينما فى الماضى، أقصد قبل ربع قرن، قادرة على أن تلعب دورًا فى إلقاء الضوء على الأعمال الفنية غير الأمريكية، ولكن مع الزمن تقلّصت أنشطة تلك النوادى وانتقل إليها أيضًا فيروس الأفلام الأمريكية، الفيلم الأجنبى غير الأمريكى نجد له مساحة فقط فى المهرجانات السينمائية، وكالعادة فإن الجمهور حتى فى المهرجانات يفضّل الأمريكى، محققًا مقولة أرسطو «الإنسان عدو ما يجهل».. ماريان تسعى أن تحيل العدو إلى صديق.
تستحق ماريان التحية والتقدير، فهى تصنع بانوراما سنوية للفيلم الأوروبى بعدد قليل جدًّا من الشباب لا يتجاوز أصابع اليدين، تنتظم العروض وتُقام الندوات وتستقبل الجمهور حتى الثانية صباحًا، وترصد أيضًا دراسات تتناول ذوق ورغبات الناس، ونستطيع أن ترى ماريان وهى تنتقل برشاقة بين مدينة نصر حيث تعرض أفلام البانوراما فى سينما «سيتى ستارز»، ثم تتوجه إلى حى المنيل لتعرض البانوراما بسينما «جلاكسى»، ويُقال والعهدة على الراوى، إنهم شاهدوها فى المنيل ومدينة نصر فى نفس اللحظة، وكأنها تملك نفحات خاصة مثل سيدى «الخضر» الذى كان يظهر فى أكثر من مولد فى نفس الوقت.
قامت السينما المصرية على أكتاف النساء، أمثال عزيزة أمير، وآسيا، وبهيجة حافظ، ومارى كوينى، وأمينة محمد ، والدور الذى تلعبه حاليًّا ماريان خورى لاستكمال المسيرة أراه يستحق أن نضع اسمها مع تلك الكوكبة النادرة فى تاريخ مصر السينمائى.