مناسب جداً ، واليوم «جمعة» كما تلاحظ ، وقلوبنا أضحت مطمئنة خلاص إلي استقرار أوضاعنا السيئة وأحوالنا الهباب علي المزيد من «الطوارئ» لدعم «الإرهاب» و«المخدرات» ، أن نتحدث في شيء يسكن المنطقة المشتركة والملتبسة بين السياسة والفن. .. مساء الأربعاء الماضي انطلق مهرجان «كان» السينمائي الدولي ذائع الصيت ، وبعيداً عن مصمصة الشفاه المعتادة والتساؤلات المزمنة المملة والبليدة التي تثار في هذه المناسبة سنوياً بشأن غياب «الحضور» المصري والعربي عن فاعلياته (هل نحضر بسينما التفهاء والمهرجين الجدد ؟!) فإن أحدا ربما لن يتذكر تلك الحكاية الصاخبة التي جرت وقائعها في مثل هذه الأيام قبل 42 عاماً (تحديداً في 19 مايو 1968) داخل أروقة قصر المؤتمرات الشهير بشارع «لاكروازيت» المطل علي خليج «كان» جنوبفرنسا حيث تقام فاعليات المهرجان ، وانتهت بانفراط عقده وإلغاء فاعلياته بعد 24 ساعة فقط من بدايتها .. هذه الحكاية سأرويها حالاً وأهديها لمن يستحق من نجومنا وفنانينا ، لأنها ببساطة تكشف كيف يكون «الحضور» الأهم للفنانين والمبدعين في قلب قضايا الناس والمجتمع ، وتجسد نموذجاً مناقضاً بالمرة لما يحدث عندنا الآن حيث غالباً ما يكون «حضور» بعض أهل الفن في القضايا والأحداث السياسية مرافقاً لفرق الأمن المركزي والمباحث ومساعدا لهما. فأما الحكاية الفرنسية فهي باختصار بدأت عندما واكبت الدورة ال 22 لمهرجان «كان» عام 1968 ذروة أحداث ثورة الطلبة والشباب العارمة التي هزت بعنف بنيان المجتمع والدولة في فرنسا ومثلت تمردا هائلاً ومزدوجاً علي نفوذ القوي المجتمعية المحافظة ، وهيمنة اليمين علي مقاليد السياسة والاقتصاد في البلاد.. وقد كان من قوة هذه الثورة أن أحداثها انتهت بأن رجل فرنسا التاريخي وقائد حرب تحريرها الطويلة من الاحتلال النازي الجنرال ديجول ، غادر الحكم نهائياً واعتزل السياسة تماماً !! إذن علي وقع هذه الأحداث المدوية جري افتتاح مهرجان «كان» في ذلك العام البعيد ، ومن اللحظة الأولي بدا التوتر الشديد مخيما علي الأجواء لاسيما أن بدء فاعليات المهرجان لم ينه الجدل والسجال الحار بين شباب السينمائيين الفرنسيين (من أمثال جان لوك جودار ، وفرانسوا تروفو ، وإريك رومر .. وغيرهم) وعدد ليس قليلاً من السينمائيين الأجانب ، حول سؤال : هل ندع المهرجان يستمر ويمضي عادياً كأن شيئاً لم يكن ؟ أم ننهيه ونوقفه أو نحوله إلي منبر احتجاجي بحيث تقتصر أنشطته علي عرض الأفلام التي تناقش الأوضاع السياسية وآفاق تحولاتها الثورية؟! هذا الجدل أخذ يتسع ويشتعل حتي بلغ ذروته في اليوم الثاني للمهرجان عندما أوقف السينمائيون الشباب عرض فيلم «شراب النعناع» للمخرج الإسباني كارلوس ساورا في قاعة المهرجان الرئيسية ، وذهبوا جميعا ومعهم «ساورا» للاجتماع في قاعة «جان كوكتو» المجاورة حيث قرأ «تروفو» علي الحضور بيانا يدعو إلي التصدي للسياسة الرسمية «المضرة بالسينما الحرة» ، وأعلن المخرج التشيكي المشهور «ميلوش فورمان» سحب فيلمه «إلي النار أيها الإطفائيون» من المهرجان تضامناً مع الشباب الثائر ، وفعل كلود ليلوش (الذي كان حصل في الدورة السابقة علي جائزة المهرجان الكبري عن فيلمه «رجل وامرأة») الأمر نفسه ، أما جودار فقد طالب بتحويل ما تبقي من المهرجان إلي ندوات سياسية ، لكن سرعان ما تداعت الأحداث وتفاقمت بعدما دخل المخرج البارز وعضو لجنة التحكيم «رومان بولانسكي» القاعة ليعلن أمام الجميع استقالته من اللجنة ، وعند هذا الحد قرر المجتمعون نقل الإجتماع إلي القاعة الكبري تأكيداً لسيطرتهم وتمردهم علي الإدارة الرسمية للمهرجان ، وبالفعل توجهوا يتبعهم المئات من حضور وجمهور المهرجان إلي القاعة التي احتلوها وسيطروا علي منصتها التي صعد عليها عضو آخر في لجنة التحكيم هو «لويس مال» معلناً انسحابه ، ثم كرت المسبحة وانسحبت أيضاً «مونيكا فيتي» ، ووراءها «تيرنس يونج».. وكان المشهد الأخير في الحكاية عندما دخل بعض أعضاء إدارة المهرجان وانخرطوا في مشاجرة بدنية مع السينمائيين الثائرين أسرعت بقرار إلغاء الدورة ال 22 للمهرجان وإغلاق أبواب قصره تضامناً مع ملايين الشباب والعمال المحتجين في شوارع باريس وسائر المدن الفرنسية آنذاك!! صباح الخير ..