الفرق الحقيقي بين الأطفال والكبار أن الأطفال يمكنهم التعبير عن مشاعرهم في نفس اللحظة وبكل الأشكال، إذا لم يرد الطفل - الممسك بيد أبيه أو أمه- مواصلة السير وشعر بالتعب يتوقف، وإذا شد أحدهما يده ليدفعه لمواصلة الطريق ارتمي علي الأرض وصرخ وجعلهم فرجة للجميع. بينما إذا أفرحه شئ ضحك عالياً وربما قفز وصفق وفعل ما بدا له، كل ما يفعله الأطفال مقبول ومبرر، بل نجده رائعاً ومحبباً إلي النفس. بينما من سمات النضج وكبر السن ألا تدع مشاعرك تفضحك، وأن تكتفي من الفرح بابتسامة رزينة، و ألا يجعلك الحزن تنهار أو تضعف....ولهذا، عندما تتوالي علينا نحن الكبار الأحداث والاختبارات، لا نملك سوي التماسك، سوي أن نكون علي قدر الموقف، هذا ما يتوقعه منا الآخرون... ثم وبالتدريج وبرغم التعامل مع الموقف وتقبله، يحدث لنا صدع من الداخل، حيث تتراكم الشجون شيئاً فشيئاً، ولأننا لا نسمح لها بالخروج، تجثم علي القلوب فتثقلها وتنهكها. ونتصبر ونقول لأنفسنا: إنه لا يوجد قلب خال ولا نفس دون اختبار، فلقد خلقنا في هذه الحياة لنكابد «وخلقنا الإنسان في كبد». وفي مثل تلك الأوقات، نحتاج إلي أحد نطلعه علي ألمنا، مثلما كنت أركض عندما أُصاب بجرح بسيط في إصبعي إلي أمي، أشير إليها بإصبعي فتطهره وتضع قبلة منها عليه وتقول لي «خلاص، راح الوجع»، الغريب أنني عندما أتذكر المشهد لا أتذكر الجرح لكني أتذكر القبلة. ورغم أننا أصبحنا نلعب دور الكبار مضطرين، كنت عندما يضيق صدري، ويثقل عليَّ حملي وأحتاج إلي الفضفضة أركض إلي أمي، وعندما أتحدث إليها لا أحتاج إلي أن أنتقي الكلمات أو البحث عن بداية موفقة للحديث، كان مجرد الحديث معها حتي لو كان متقطعاً غير مفهوم، يصلها وتفهمه والأهم أنها تشعر بي وأصبح أفضل..أحياناً كان مجرد رؤيتها ومجرد الجلوس معها دون كلام يريحني، حتي بعد وفاتها كانت رؤيتها في المنام تجعلني أصحو أفضل وأكثر راحة. المثل الأعلي لله، لكنني أشعر بنفس المشاعر تجاه ذهابي لبيت الله الحرام، أتوق للذهاب إلي الكعبة كطفل يركض فور إصابته بجرح ليطلع من يحبه عليه، ليكشف له ألمه فيريحه ويشعره بأن الألم سيزول ويبقي الإحساس بالرحمة. مجرد رؤية الكعبة والتطلع إليها يجعلني أفضل، حتي لو كان دعائي متقطعاً غير مترابط وغير بليغ..تملؤني الثقة أن الله قريب مجيب، «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير»... يقول زميل لي عندما أدعو لا أقول سوي «يارب» لا أحتاج إلي قول المزيد فهو يعرف كل ما أريد قوله أو طلبه. «لا تذهبي»..يقولها لي جميع من حولي خوفاً وقلقاً فور علمهم برغبتي بالسفر للعمرة... البعض يري من الأفضل ألا أترك ابني الصغير في الوقت الذي أتولي فيه مسئولية متابعته صحياً، والبعض ينصحني بالتأجيل حتي زوال الآلام التي أشعر بها حالياً.. لكنني لا أستطيع أن أشرح لهم كم أتوق إلي الذهاب...كم أتوق إلي التحديق في الكعبة دون أن أحول نظري عنها، وأن أفضفض وأشكو وأبكي دون تحفظات أو حرج..أبكي كطفلة، و أفرح كطفلة.. لا أستطيع شرح رغبتي أن أنفصل نهائياً عن روتين الأيام والأدوار التي يتعين عليَّ القيام بها. اشتياقي لزيارة البيت وتشبثي بالسفر رغم كل النصائح هو موقف أناني بحت من ناحيتي، فلطالما نظرت إلي العبادات علي أنها أنانية، فنحن الذين نحتاج للالتجاء والشكوي والدعاء والحصول علي الثواب. بينما كنت أجد أن التعامل مع الآخرين هو الاختبار الحقيقي، هو ما يحتاج إلي أن يتسع صدرك للآخرين ولبذل الجهد والوقت معهم ولهم. في هذا المكان فقط : في بيت الله، نعود إلي سجية وفطرة الأطفال وصدقهم ، رأيت رجالاً متكئين بروؤسهم وأذرعهم علي جدار الكعبة يبكون بل ينهنهون ويشهقون من شدة البكاء، لكنه بكاء محبب يخلع القلب من التأثر والتوحد.. رأيت من تزغرد وتضحك ما أن رأت الكعبة، بفرحة صافية وبكاء نقي، وسمعت أصوات دعاء متتابعة بألسنة مختلفة، لا تختلف عن إلحاح الأطفال لأبائهم عندما يريدون طلباً، إلحاح وتكرار وتشبث، لكنه لا يرد سوي بالإجابة وبنظرة عطف.