أعظم من قرأ القرآن فى التاريخ هو الشيخ صاحب الصوت الملائكى محمد رفعت، فهو نفحة من الجنة، أعرف العديد من أصدقائى الأقباط يطيب لهم أن يبدؤوا يومهم بالاستماع إليه، كانت وصية يوسف شاهين أن يشيع جسده على صوت الشيخ رفعت من جامع عمر مكرم، وليس معنى ذلك أنه أشهر إسلامه، ولكن هذه قصة أخرى. ما نسمعه فى الإذاعة هو آخر ما تم إنقاذه من تسجيلاته بمجهود فردى بمساهمة عدد من الأصدقاء خلال مطلع الأربعينيات، قبل أن يفقد الشيخ رفعت صوته نهائيا بعدها بخمس سنوات عندما أصيب بزغطة مزمنة اتضح بعد ذلك أنها سرطان فى الحنجرة. الشيخ رفعت كان ضحية مفهوم ضيق وقاصر للدين، حيث إنه عاصر زمن الأسطوانة والتسجيلات الإذاعية، وكان بالفعل فى طريقه لتسجيل القرآن كاملا بصوته، لولا أن هناك من قال له يا مولانا كيف تأمن على تلك الأسطوانة، ألا تُسمع فى مكان لا يوقر فيه القرآن فلم يتحمس الشيخ الجليل.. قيل أيضا إن هناك خلافا فى الأجر حال بين الشيخ وتسجيل القرآن فى الإذاعة المصرية الوليدة عام 1934، بينما وافق فى نفس الفترة الزمنية على تسجيل سورة «مريم» لإذاعة ال«بى بى سى» اللندنية، وكان يعتقد أن هذا محرم، لأنهم غير مسلمين، إلا أنه سأل شيخ الأزهر الظواهرى فأباح له التسجيل.. ورغم ذلك فأنا لا أستبعد التفسير الأول، لأنه من المعروف أن الشيخ رفعت كان من الممكن أن يحيى ليلة بتلاوة القرآن لعائلة فقيرة لمجرد أن هذه كانت هى وصية المرحوم، ولهذا أجدنى أميل إلى تصديق أن العقول التى تكره دائما المستحدثات العلمية وتناصبها العداء هى التى فرضت قانونها بهذا الحديث «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار»، نعم كل ضلالة فى النار، ولكن هل كل بدعة بالضرورة ضلالة؟
أتصور أن الشيخ خضع إلى مبدأ لا تقربوا الشبهات، وهكذا فإن ما تبقى من تسجيلات على ندرتها فى الإذاعة تمت معالجتها هندسيا، كما أن الشيخ الراحل أبو العينين شعيشع شارك فى استكمال بعض الآيات التى من الممكن أن تضيع فيها بعض الحروف، لأن هذه التسجيلات التى أعدها الهواة كانت فى الهواء الطلق، وتمت فى مرحلة لم تكن التسجيلات الصوتية بهذه الكفاءة، وكم فقد الإسلام بل والبشرية صوت الشيخ رفعت، بسبب تلك النظرة القاصرة.
ولم نفقد فقط صوت الشيخ رفعت بل إن أم كلثوم كانت تتمنى تسجيل القرآن كاملا بصوتها وهى بالطبع استندت إلى ثقافتها وتدرب صوتها على الأداء القرآنى وحفظه، كما أن لها تسجيلا لآية من الذكر الحكيم فى فيلم «سلامة» ولم يعترض وقتها أحد فى منتصف الأربعينيات متعللا بأن صوت المرأة عورة، ولكن الأزهر الشريف اعترض على رغبة أم كلثوم فلم تكرر المحاولة. الموسيقار محمد عبد الوهاب وثقافته أيضا دينية، وكان يحفظ القرآن الكريم على يد شقيقه الكبير الشيخ حسن، إلا أنه لم يجد ترحيبا من الأزهر، كان قد تردد قبل خمس سنوات أن نجاة تريد تسجيل القرآن وأنها تقدمت للأزهر بهذا الطلب، وعندما استفسرت مباشرة منها عن صحة هذا الخبر، حيث إن الفنانة نجاة معتزلة ليس فقط الغناء، ولكنها معتزلة أيضا التواصل الإعلامى، قالت لى وقتها إن الخبر لا أساس له من الصحة، وإنها على حد قولها لم تشأ تكذيبه لأن الخبر الكاذب يكذب نفسه بنفسه.
فى السنوات الأخيرة لدينا أكثر من مطرب فكر جديا فى تسجيل القرآن بصوته مثل على الحجار ومحمد الحلو وإيهاب توفيق.
كل المحاولات السابقة باءت جميعها بالرفض، بالطبع لو ثبت أن هناك خطأ ما فى الأداء لا يجوز طرح الشريط للجمهور، ولكن هل المطرب ليس من حقه لكونه مطربا أن يسجل القرآن، هل الصورة الذهنية للمطرب وما قدمه من أغنيات عاطفية تجعله غير لائق لتسجيل القرآن؟ لقد شاهدنا فى مسلسل «عمر» كل خلفاء الله الراشدين يؤدى أدوارهم ممثلون بعضهم له تاريخ فى أعمال درامية رومانسية، ولم يؤثر ذلك أبدا على مصداقية العمل الفنى؟!
أتصور أن الأزهر الشريف ينبغى أن يعيد النظر فى العديد من تلك الممنوعات، ويكفى أن نعلم أن أفضل من قرأ القرآن الشيخ محمد رفعت، درس وتمرس على أداء المقامات الموسيقية، بل كان يدندن بالغناء بين الأصدقاء!!