القومية للأنفاق: نعمل على الكارت الموحد لاستخدام جميع وسائل النقل    تراجع طفيف للأسهم الأمريكية في ختام تعاملات اليوم    اكتمال ملامح ثمن نهائي أمم إفريقيا.. 16 منتخبًا تحجز مقاعدها رسميًا    قبل المباراة المقبلة.. التاريخ يبتسم لمصر في مواجهة بنين    الأهلي يفوز على الشمس في دوري السيدات لليد    الكونغو الديمقراطية تحسم التأهل بثلاثية في شباك بوتسوانا بأمم أفريقيا 2025    مندوب الصومال يفحم ممثل إسرائيل بمجلس الأمن ويفضح جرائم الاحتلال المستمرة (فيديو)    الرئيس الإيراني: رد طهران على أي عدوان سيكون قاسيًا    تشيلسي ضد بورنموث.. تعادل 2-2 فى شوط أول مثير بالدوري الإنجليزي    رسميا.. الفراعنة تواجه بنين فى دور ال16 من كأس أمم أفريقيا    التعثر الأول.. ثنائية فينالدوم تفسد أفراح النصر ورونالدو في الدوري السعودي    مصرع شخص صعقا بالكهرباء في سمالوط بالمنيا    قرارات حاسمة من تعليم الجيزة لضبط امتحانات الفصل الدراسي الأول    الكشف الأثري الجديد بصان الحجر يكشف أسرار المقابر الملكية لعصر الأسرة 22    ستار بوست| نضال الشافعي يكشف تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة زوجته الراحلة.. وليلى غفران تعود للغناء من جديد    منال رضوان توثق الضربات الإسرائيلية على طهران في روايتها «سماء مغادرة»    ندى غالب ومحمد حسن ورحاب عمر يحيون حفل رأس السنة فى دار الأوبرا    دويتو غنائى مبهر لشهد السعدنى ومحمد تامر فى برنامج "كاستنج"    غدًا.. محاكمة 3 طالبات في الاعتداء على الطالبة كارما داخل مدرسة    د هاني أبو العلا يكتب: .. وهل المرجو من البعثات العلمية هو تعلم التوقيع بالانجليزية    للمرة الثانية.. أحمد العوضي يثير الجدل بهذا المنشور    حلويات منزلية بسيطة بدون مجهود تناسب احتفالات رأس السنة    الحالة «ج» للتأمين توفيق: تواجد ميدانى للقيادات ومتابعة تنفيذ الخطط الأمنية    أمين البحوث الإسلامية يلتقي نائب محافظ المنوفية لبحث تعزيز التعاون الدعوي والمجتمعي    ملامح الثورة الصحية فى 2026    هل يجب خلع الساعة والخاتم أثناء الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    وزارة «العمل» تصدر قواعد وإجراءات تفتيش أماكن العمل ليلًا    هل تبطل الصلاة بسبب خطأ فى تشكيل القرآن؟ الشيخ عويضة عثمان يجيب    عبد السند يمامة ‬يعتمد ‬التشكيل ‬النهائي ‬للجنة ‬انتخابات ‬رئاسة ‬الحزب    طلاب جامعة العاصمة يشاركون في قمة المرأة المصرية لتعزيز STEM والابتكار وريادة الأعمال    خالد الجندى: القبر محطة من محطات ما بعد الحياة الدنيا    خالد الجندي: القبر مرحلة في الطريق لا نهاية الرحلة    نهاية تاجر السموم بقليوب.. المؤبد وغرامة وحيازة سلاح أبيض    الداخلية تضبط أكثر من 95 ألف مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    الجيش اللبناني يتسلم سلاحًا وذخائر من مخيم عين الحلوة    رئيسة المفوضية الأوروبية: عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي ضامن أساسي للسلام    جيش الاحتلال يقتل طفلة فلسطينية شرقي مدينة غزة    كشف ملابسات مشاجرة بالجيزة وضبط طرفيها    السيطرة على انفجار خط المياه بطريق النصر بمدينة الشهداء فى المنوفية    الأهلي يواجه المقاولون العرب.. معركة حاسمة في كأس عاصمة مصر    غدًا.. رئيس الطائفة الإنجيلية يشارك كنيسة مصر الجديدة احتفالتها برأس السنة الميلادية    حقيقة تبكير صرف معاشات يناير 2026 بسبب إجازة البنوك    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    الأمانة العامة لمجلس النواب تبدأ في استقبال النواب الجدد اعتبارا من 4 يناير    مواجهات قوية في قرعة دوري أبطال آسيا 2    ضبط قضايا اتجار غير مشروع بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة قيمتها 7 ملايين جنيه    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    الزراعة: تحصين 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر.. ورفع جاهزية القطعان مع بداية الشتاء    وزارة العدل تقرر نقل مقرات 7 لجان لتوفيق المنازعات في 6 محافظات    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    جهاز القاهرة الجديدة: كسر بخط مياه فى شارع التسعين وجارى إصلاحه    بنك مصر يخفض أسعار الفائدة على عدد من شهاداته الادخارية    رئيس جامعة الجيزة الجديدة: تكلفة مستشفى الجامعة تقدر بنحو 414 مليون دولار    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    نسور قرطاج أمام اختبار لا يقبل الخطأ.. تفاصيل مواجهة تونس وتنزانيا الحاسمة في كأس أمم إفريقيا 2025    طقس اليوم: مائل للدفء نهارا شديد البرودة ليلا.. والصغرى بالقاهرة 12    الشرطة الأسترالية: منفذا هجوم بوندي عملا بمفردهما    الناقدة مها متبولي: الفن شهد تأثيرًا حقيقيًا خلال 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يحيي قلاش يكتب:هي استراحة محارب يا جمال
نشر في الدستور الأصلي يوم 07 - 05 - 2010

خلال العامين الماضيين فقدت أعزاء كثيرين لهم عندي مكانة وتقدير كبيران.. لكنني لم أشعر بكل هذا العجز في التعبير عن رحيل أحد مثلما أفعل الآن وأنا أحاول الكتابة عن جمال كمال، استغرق الأمر مني وقتا طويلاً وجهدًا غير مسبوق حتي أمتلك جرأة الإمساك بالقلم وكأنني أرثي نفسي وزمني.. فما كان بيني وبين جمال شيء لا أستطيع أن أقبض عليه ولا أن أصفه، ربما هي كيمياء من نوع خاص جعلتنا لا نفترق منذ التقينا أول مرة ووحدت بيننا في القرب أو البعد وعند السؤال وبدونه، في الاهتمام المشترك أو في الاختلافات. كان بيننا شيء يزيد ويتسع وينمو ويكبر داخل كل منا تجاه الآخر، يشعرنا بأن أهم ما بيننا هو ما لم نقله ولا تحمله حواراتنا الموصولة، ويتجاوز عدد السنين التي جمعتنا أو تركيبتنا النفسية والشخصية التي تذهب بكل منا إلي ضفة أخري، أو الاهتمام والطموحات التي صبت في اتجاهات مختلفة رغم سعي كل طرف لتحقيقها علي طريقته وفي ظروفه لكن دون أوهام أو خداع أو انتهازية.
نعم نفس جمال كانت مرهقة ومهمومة لكنها لم تكن أبدا بسبب منصب أو موقع أو لخلاف مع شخص ما، وأدعي أن الآلام الحقيقية التي كان يعانيها هي أزمة كل من يملك ضميرا حيا ومن يحلم في زمن اغتيال الأحلام المشروعة والنظيفة.. هي أزمة جيل مازال بعضه يقاوم بعد أن ولد ورأسه مرفوعة ومحلقا في عنان السماء، وإذا به يهوي إلي قاع مراحل تحولات كبري اختلطت فيها كل الأوراق حتي استقر وقد وجد نفسه محاصرا وأغلقت أمامه كل طرق الانتصار أو الخلاص أو معانقة المستقبل، وفتح أمامه منفذ وحيد لا يؤدي به إلا إلي الانكسار أو الاستسلام أو الموت.
جمال المقاتل الذي لا يترك ميدان المعركة ولا يتخلي عن سلاحه ظل كما هو منذ عرفته يعاملك بروح الفارس وتقاليده ويكره الخيانة ويعتبرها جبنًا ولا يطعن أحدًا في الخلف أو غدرًا، فمعه تستطيع أن تؤمن ظهرك وأن تواجهه فتري وجهه بدون قناع، بل مرآة تري فيها ما يحمله قلبه ولا يمكن أن يفاجئك بتعبير خبيث أو ضحكة صفراء أو لمحة منافقة. كان يحمل قلب طفل لا ينبض إلا بما يشعر به لكنه لم يستطع أن يدربه ليتسع لهموم زمانه أو يجنبه آلامًا تتزايد بسبب ما يراه ويعيشه ويكابده. كان طموحه مشروعًا لأنه منذ البداية قرر أن يكون ناجحًا في مجاله وأن يتابع كل تفاصيله وأن يدرس كتلميذ كل ما يتعلق به وأن يتفوق علي خبراء وأكاديميين وأن تحكمه في ذلك تقاليد المهنة التي ينتمي إليها، لذلك اكتسب احترام من تعامل معهم أو تعاملوا معه وظلت علاقته بهم موصولة أثناء المنصب وبعد ترك موقع القيادة والتأثير.. كان يمتلك شخصية بها مزيج من بساطة متناهية وكبرياء بلا حدود وثقة تحفظ لنفسه وللآخرين قدرهم. خلال الأسابيع القليلة الماضية حضر للجريدة في غير موعده ليسلم مقالا كتبه خصيصا عن زميله الراحل المصور الصحفي محمود عبدالفتاح، وقال لي: «محمود فنان قاتل بالكاميرا معارك كثيرة وبشجاعة متناهية وكان بارعا في عمله وتعرض للموت أمامي أكثر من مرة من أجل لقطة يرضي عنها أو تخلد اسمه، ورحل وهو يشعر بالمرارة فلا أقل من أن أذكر شهادة في حقه هو يستحقها حتي لو كانت بعد رحيله».
دخل جمال معارك كثيرة بقلمه ووقف منذ سنوات طويلة مضت عند حملات قادها البعض للنيل من عروبة مصر ومعارك حرب الاستنزاف والتلاعب في تقديم مفاهيم جديدة عن الأمن القومي المصري.. كان يرصد هذه الحملات باعتبارها مقدمات لما بعدها وجاء فعلا ما بعدها بأسرع مما نتصور وزحف علي كل شيء وكنت أسمع داخله يصرخ ومحاولات استمراره في الكتابة لا تتوقف، وزاد الأمر في الشهور الأخيرة وأشفقت عليه فرد «لم يعد عندي حسابات إلا أن أقول ما عندي» وكأنه يسابق الزمن ليترك لنا كلمته. كانت قضية زواج المال من السلطة التي تجلت في قبحها وبشاعتها خلال السنوات العشر الأخيرة، وكان السعي لمحو ذاكرة الوطن وطمس وعيه وتشويه تاريخه هي محاور اهتمامه وكتاباته في الفترة الأخيرة لذلك كانت سعادته لا توصف عند دعوته لحضور لقاء مع تلاميذ مدرسة ثانوية بالسيدة زينب بمناسبة الاحتفال بعيد سيناء، لكنه رحل قبلها بيومين رغم حرصه الذي كرره لي «إن هذا الجيل مستهدف وواجبنا ألا نتركه لكل هذا الزيف وإلا خسرنا كل أمل لنا في المستقبل».
كان يردد: «متي يكف المطبعون والانهزاميون والمارينز المصريون والمتأمركون عن الحديث عن تغيير الأولويات والحرب والسلام والتطبيع، وعلينا أن نعرف عدونا الحقيقي ومصادر تهديد أمننا القومي سواء الخارجية أو الداخلية وأن نستيقظ ونستعد له، إن إسرائيل قد أخلت بمعاهدة السلام ونصوصها وروحها وإنها ستظل العدو الرئيسي والتهديد الأول لمصر والمنطقة العربية» كان يري أن الأمن القومي المصري يبدأ من الداخل وأن بطله الحقيقي هو المواطن المصري البسيط الذي يمثل عماد قوة الدفاع عن مصالح مصر وأمنها في لحظات الخطر والتحدي.. وكتب: «إن القوات المسلحة بحكم تكوينها الاجتماعي وتاريخها قوامها الأساسي من زارعي الأرض الفلاحين وأبنائهم، تمثل النسيج الاجتماعي المصري بكل ما فيه من شرائح وفئات وبالتالي هي شديدة الخصوصية والتفرد وهي دائما ملك الشعب وأداته ولم تكن يوما أبدا أداة قمع أو العصا الغليظة للنظام الطاغي علي رأس المحكومين وكان يتصدي لمحاولات يعتبرها مشبوهة لإعادة كتابة تاريخ مصر بالمسخ والتشويه والتغيير المتعمد التي وصلت إلي اعتبار ثورة يوليو 1952 التي غيرت وجه الحياة والواقع المصري، هي سبب كل بلاء، وأن مجانية التعليم أفسدت التعليم وأدت إلي الأحقاد الطبقية، والإصلاح الزراعي الذي أنصف ملايين الفلاحين هو الذي أفسد الزراعة، والتأميمات أدت إلي هروب المصريين بأموالهم، والدولة التي وفرت للمصريين احتياجاتهم الأساسية تسببت في تدليلهم وتواكلهم، والقطاع العام الذي استندت إليه مصر في كل معاركها الكبري ثبت فشله، والانتماء العربي أضر بمصالح مصر التي يجب ألا تهتم إلا بنفسها!!
كان يري خطورة استمرار هذه المحاولات ويدعو إلي استمرار التصدي لها ويردد: «التاريخ هو ذاكرة الأمة وضميرها وأمر حيوي للحاضر ومؤثر في المستقبل، وأنه لا يمكن أن يترك للمصالح والأهواء، وأن الضمير إذا أصيب بأي عطب يصبح كل شيء ممكنا ومقبولا».
وكان يذكر مثالا لذلك بمحاولات إعادة قراءة وصياغة تاريخ بطرس باشا غالي الجد بعد مرور مائة عام من اغتياله باعتباره وزيرًا كفأً ورجل دولة من الطراز الأول، وعلينا بموجب هذه القراءة الجديدة أن ننسي دوره في حصار مصر الاقتصادي ومد امتياز قناة السويس وتمكين الإنجليز رسميًا من المشاركة في حكم السودان ودوره في محاكمة دنشواي. وكان يأخذ إقامة قداس علي روح بطرس باشا غالي حضره جميع أحفاده مأخذ الجد، وانطلق من نقد سياسات د.بطرس غالي وزير المالية الحالي من أنها امتداد لخطر قديم بدأ بجده لا يستهدف المصالح العامة، بل يستهدف إنهاء دور مصر لحساب مصالح قوي خارجية.
وانتقد بشدة الحكومة الحالية واعتبرها غير جديرة بثقة الشعب المصري وأنه يسيطر عليها رجال المال والأعمال الذين جسدوا علي أرض الواقع خطايا علاقة المال بالسلطة وأنها تخلت عن مهامها الأساسية بحماية احتياجات المواطن البسيط. كذلك انتقد بعنف وشدة دور البرلمان في الحياة السياسية ومعايير اختيار نوابه وقال إن الانتخابات لا تعبر بشكل كامل عن الاختيار الحر للمواطنين وأن سطوة المال أصبحت سيفًا مسلطًا علي رقبة الديمقراطية ونكسة ومعضلة للممارسة النيابية وأنها المسئولة عن سلوكيات وتصرفات نواب النقوط والكباريهات وصالات القمار والسيديهات ونواب القروض والبنوك والمخدرات والتأشيرات والعلاج علي نفقة الدولة، علاوة علي نواب العنف الرمزي اللفظي والسياسي والجسدي.
ذهب جمال بعد أن قال الكثير مما يود أن يتركه لنا، وقال لي ابنه محمد وأنا أحتضنه ونبكي أنفسنا بعد تشييع الجنازة: «أبويا اكتفي بربع ما يستحقه وذهب ليستريحوا».. أطمئنك يا محمد أنهم لن يستريحوا فاسترح أنت، فالكلمة قادرة علي الحياة والبعث وقد تركها أقوي من طلقات الرصاص، ربما بالغ أبوك كعادته في حب هذا الوطن وأراد أن يقدم برهاناً جديداً علي ذلك بأن كل محب مطلوب أن يدفع ثمن حبه دمًا، وكل عاشق مكتوب عليه أن يبرهن بالموت أحيانًا إننا في بلد يستحق أن نفعل ذلك من أجله وأنه بدون هذه التضحيات سنظل بلا مستقبل وسيظل الخراب هو وجهتنا الوحيدة.جمال كمال المسكون قلبه بكل هذا الهم وهذا الحب من حقه أن يخلد لبعض الهدوء في استراحة محارب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.