منذ خلق الله الأرض ومن عليها وُجد هذا السؤال الأزلي: هل المرأة كالرجل ، أم إنها أقل شأنا ؟ وهل خلقت لخدمة الرجل وراحته كما يتصور البعض ؟ وهل هي فعلا ناقصة عقل ودين ؟
لم تكرم المرأة أبدا قبل نزول القرآن ، وقد ظلمت ولاتزال في الغرب والشرق ، وكانت في معظم الحضارات التي سبقت الإسلام تعامل معاملة مهينة ، فلا رأي لها ولا كيان مستقل ، ولا حق لها فى إرث ، بل كانت تعتبر متاعا يورث ؛ تُباع وتُشتَرى أو تهدى كمحظية إلى علية القوم ، وعندما تنزّل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ رفع من شأنها وكرمها ، ونزلت آياته تترى تحث على حسن معاملة النساء ، منها قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) - النساء 19 ، ثم أنزل الله عز وجل من القرآن ما يُتلى حتى تقوم الساعة ما أنصف المرأة وأعطاها نفس الحقوق التي كانت حكراً على الرجل ، الحق في أن تعمل ، والحق أن تختار زوجها بعد أن كانت تزوَج قسرا رغم إرادتها ، وحقها في أن تتعلم ، حقها في أن ترث ، حقها في طلب الطلاق عند استحالة العشرة ، وحقها في أن تكون لها ذمة مالية منفصلة ، وكل هذه الحقوق تحصل عليها وتعمل ما وجب عليها بالمعروف ، قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) البقرة 228 .
إن هذا الاهتمام الفائق بالمرأة مرجعه إلى كونها المحور الأساسي في تكوين الأسرة السليمة التى يبدأ حُسْن إنشائها عند المرأة ، وما لم تحصل على حقوقها ؛ ستبقى لديها مشاعر الحرمان والذل والقهر ، ولن تستطيع أبدا بناء أسرة سليمة ، ففاقد الشيء لايعطيه ، والأسرة أصل المجتمع ، وهي المنشأ والمحضن الطبيعي لتنمية الأجيال وبناء عقولها وأرواحها ، وهي الأساس في حماية النشء من الزلل ووقايته من الوقوع في مهاوي الفساد بأنواعه إن كانت مبنية على أسس سليمة من التقوى والإيمان ، وهذا يدلنا على أن الإسلام اعتبر المرأة إنسانا كامل الأهلية وليس ناقصها كما يدعي البعض افتراء وزورا ، لما لها من دور رئيسٍ في بناء سليم للأسر والمجتمعات ، وقد طبق رسول لله صلى الله عليه وسلم آيات الذكر الحكيم في حسن معاملة النساء والإعلاء من شأنهن على نسائه ونساء عصره ، باعتباره معلم الإنسانية الأعظم ، فكان خلقه في بيته القرآن كما قالت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها ، وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهله) ، حتى شهد به خالقه: (وإنك لعلى خلق عظيم ) - القلم 4 .
وكانت النساء على عهده صلى الله عليه وسلم تعملن ، كما نعرف عن السيدة خديجة رضوان الله عليها أنها عملت في التجارة ، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تشرح للنساء ما غمض عليهن من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لقبت بفقهية النساء الأولى ، وكانت أعمال النساء آنذاك من تجارة أو طبابة النساء ، أو شرح وتفسير كعائشة ؛ ليس فيها مايشغلهن عن وظيفتهن الرئيسة والأهم ؛ وهي إعداد النشء كي يربو فى بيئة خالية من المفاسد والعيوب والمصائب التي نرى الكثير منها في زماننا عندما تركت الأمهات بيوتهن جريا وراء وهم أسموه تحرير وتمكين المرأة ، وهذا والله هو خراب مستعجل للمرأة ولأسرتها أو متأخر ، فلا هي تعمل بإتقان في وظيفتها لانشغال بالها على أبنائها ، ولا هي تملك وقتا يعينها على التفاني والإخلاص لتأسيس أسرتها تأسيسا قويما ، وهذه ليست كما قد يتصور البعض دعوة للمرأة بالرجوع إلى البيت ، فكل امرىء له مطلق الحرية في أن يعمل أو لا يعمل ، ولكنها دعوة للتفكير مليا فى ماذا سيفيد المرأة إن عملت ؟ وهي مشتتة التفكير بين العمل وتحقيق الذات وترك أسرتها تغرق في تربية الخادمات (إن وجدن) أو بيوت الحضانة المنتشرة في ربوع مصر ، كي ترمي الأم طفلا لم يتجاوز عمره عاما أو عامين في عُهدة من لايهمهن - مثلها - سوى جني المال ، أو قضاء الوقت بعيدا عن مسئوليتهن الجسيمة في بناء المجتمع .
إن أي فساد في المجتمع كبُر أو صغُر أساسه ترك المرأة لبيتها وأبنائها دون وعي منها أنها خلقت من أجل أن تبني ، لا أن تكون معولا يتسبب في هدم القيم والمجتمع .
وإن أرادت المرأة أن تعمل فلتصبر حتى تنتهي مهمتها الأسمى والأجل وهي بناء أسرتها على أسس سليمة قويمة متينة تبنيها بيدها ولا تتكل على غيرها لإنجاز وإتمام هذه المهمة الجليلة ، إن أحبت أن تعمل بعد إتمام بناء أسرتها فلتعمل لا لوم عليها ولا تثريب .
قد لايعجب هذا الرأي الداعيات إلى تحرير المرأة ، وسيعتبرن أن جلوس المرأة في بيتها كي تبني أسرتها هي دعوة رجعية ، ولتنظر هاته النسوة إلى قريناتهن الأوروبيات اللاتي يطالبن النساء المتزوجات ويناشندهن بالعودة إلى بيوتهن ، بعدما أدركن أن عمل المرأة ليس تحررا ، بل هو لعنة وتضحية بالأطفال رصيد المستقبل البشري ، مقابل ماذا ؟ مقابل زيادة في دخل الأسرة لا تكاد تذكر ولاتستحق هذه التضحية الغالية بالأبناء ومستقبلهم .
إن من شروط نجاح الإنسان في عمله أن يكون متقنا له ، مخلصا فيه ، منكبا عليه بكل تركيز وتفان وحب ، ولا ننسى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه) ، وعمل المرأة المتزوجة أيّا كان نوعه ، من طب أوهندسة أو فضاء أو قضاء ، أو أي عمل آخر (وبخاصة ما يحتاج من الأعمال لصفاء الفكر والذهن ؛ كالحكم بين الخصوم فى ساحات القضاء) ، لايمكن أن يكون متقنا ، فنصف عقلها مشغول بأبنائها وزوجها وبيتها.
ربما لن تظهر نتائج عدم إتقانها لعملها خارج البيت أو داخله فوراً وقد تظهر لاحقا ، حينها سيكون السيف قد سبق العزل ، ولن تعود بها السنون لكي تصلح ما دمرته بيديها وهى واهمة.
ونذكر هنا قول امرأة عمران أم مريم عليها السلام ، عندما توجهت إلى خالقها بأن نذرت ما في بطنها خالصا لربها محررا من كل قيد ، ولقد كانت في قرارة نفسها تنتظر ولدا ذكرا ، فالنذر في المعابد لم يكن إلا للصبيان حتى ينقطعوا عن كل شىء إلا العبادة والتبتل , ولا تستطيع الأنثى بما خلقت عليه من بنية رقيقة ، أن تنهض لهذه المهمة الصعبة ، فقالت رضي الله عنها: (وإني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى ) - آل عمران 36 , إذ إن هناك من الأعمال ما لا تستطيع الأنثى القيام بها ، وليست مكلفة بها رغم قدسيتها ، لأن مهمتها فى بناء الأسرة تماثل التعبد والتبتل قدسية .
وجدير بالذكر أن الدراسات الحديثة التي أجرتها جامعة ستانفورد قد أثبتت أن المرء ؛ رجلا كان أو امرأة ؛ إذا كان له أكثر من عمل لا يمكن أن يبرع في أحدهما ولا أن يتقنه , وبقاء المرأة فى بيتها لبناء أسرتها هو إتقان لعملها ولا يحط أبدا من شأنها بل هو إعلاء وتكريم لها ، وإبراز لأهمية دورها في تنمية المجتمعات وبناءها ، وهذا ينبع من فهمها لدورها الهام الذي خلقت من أجله، والله من وراء القصد ..