سألتنى مذيعة قناة «الحرة» فاتن زين الدين عن حقيقة اعتراض الأزهر على أغنية «إحنا شعب وانتو شعب» وتحديدا مقطع «برغم إن الرب واحد لينا رب وليكو رب»، فقلت لها: معلوماتى أن الأزهر لم يصدر بيانا رسميا ولكن هناك تحفظات من بعض السلفيين والإخوان، وفى كل الأحوال سبق أن أعلنت اعتراضى على الأعمال الفنية التى تزيد الفرقة داخل حدود الوطن ولكنى فى نفس الوقت أرفض تلك القراءة المتعسفة للفن التى تجعله مباشرة يخضع للحلال والحرام، ولهذا لا أرى أن ما كتبه مدحت العدل يتجاوز الحدود الدينية إلا إذا انتزعنا الجملة من سياقها. سألتنى عن اصطدام الأزهر بالغناء، فقلت لها: مثلا لسيد درويش أغنية «أنا مت فى حبى وجُم الملايكة يحاسبونى» قدّمها قبل 95 عاما وأعادها إيهاب توفيق قبل عام وعندما علم باعتراض الأزهر اعتذر بل وندم على غنائها وتمنى أن يسامحه الله على تلك المعصية.
لست متأكدًا إذا كان الأزهر هو الذى اعترض أم بعض الشيوخ المنتمين إلى الأزهر لأن هناك فارقا بالطبع بين رأى شيخ فى الأزهر ورأى مشيخة الأزهر. هل ما أغضب رجال الدين أنه ميت فكيف يتكلم، أم «جُم الملايكة يحاسبونى»؟ أعتقد أنها الثانية، هناك حساسية ما تنتاب رجال الدين عند ذِكْر كلمة الملائكة رغم أنها فى اللغة الدارجة كثيرا ما تُستخدم عندما يصف الحبيب حبيبه.
لقد سبق أن تعرضَت أم كلثوم لهجوم ضارٍ بسبب أغنيتها «الحب كله» التى تقول فى أحد مقاطعها «يا أرقّ من نسمة وأجمل من ملك»، بعدها صارت تخشى الاقتراب من الملائكة، حكى لى الملحن الموجى الصغير شفاه الله أن أغنية «اسأل روحك» التى لحّنها والده لأم كلثوم كان بها مقطع فى نهايتها به كلمة «ملايكة» فاستشعرت أم كلثوم أنها ربما تجد نفسها فى خصومة مع رجال الدين، حيث كان الشيخ كشك فى تلك السنوات كثيرا ما يوجِّه إليها انتقادات علنية لاذعة، فقالت للموجى بخفة ظل «يا موجى اصرف الملايكة أحسن لك».
كثير من الفنانات خصوصا المحجبات منهن يكتشفن أنهن فى دفاعهن عن القبول بالعمل الفنى أو لتبرير الرفض يصعد اسم الشيخ فلان أو علان، وتستمع إلى من تقول «سألتُ الشيخ فوافق أو اعترض»، والمقولة الشهيرة المنسوبة إلى الشيخ الشعراوى وهى أن «الفن حلاله حلال وحرامه حرام» مثل الإناء قد تضع فيه الماء فيصبح حلالا بلالا أو تضع فيه الخمر فيصبح محرما، الحقيقة أن كل هذه التفاصيل ترى فيها أيضا أنها تستند إلى مرجعية دينية فى تقييم الفن تحيله إلى حلال أو حرام رغم أن التقييم الفنى يخضع لمقياس آخر وهو «الجمال» بمعنى القيمة الجمالية أو القبح الفنى.
رجل الدين ليست لديه إلا تلك المرجعية المستمَدَّة من الكتب السماوية وهى بطبيعتها المقدسة لا تحتمل النقاش وليس من المنطقى أن نطلب من رجل الدين أن يتجاوز عن ذلك ليرى الأبعاد الأخرى لأنه سيتوقف فقط أمام ظاهر الكلمات ولن يبحث عن الأعمق ولا عن رؤية الشاعر ولا نبرة الأداء.
كلنا أسرى لخبرتنا وثقافتنا ورجل الدين حتى لو كان ممن يطلقون عليه مستنيرا ستجده فى نهاية الأمر يقيس الأمر طبقا لتلك المرجعية المطلقة بطبيعتها، كان الشيخ محمد الغزالى يبيح صوت المرأة ولكنه يقول أستمع إلى امرأة تقول «أنا الشعب أنا الشعب» يقصد أم كلثوم ولا أستمع إلى رجل يقول «ليلنا خمر» يقصد عبد الوهاب، لو طبقنا ذلك على أغانى أم كلثوم سنجد أن الشيخ المستنير يمنع 90% من أغانيها ولن يتبقى سوى تسجيلاتها الدينية والوطنية.
القضية موغلة فى القدم وبعضها أسفر عن منع أغانٍ استجابةً لرأى الجهة الدينية، مثلا أغنية عبد الوهاب «من غير ليه» اعترض عليها الأزهر قبل أكثر من 25 عاما ولكن الإذاعة تضع الأغنية على الخريطة منذ ذلك الحين، مدحت صالح فى «كوكب تانى» وغيرها لم تستطع تلك الأفكار المتزمّتة أن تفرض إرادتها على الإبداع فى مصر ولكنها أدت إلى تخوف البعض.
اعتراض رجال الدين على أغنية أو فيلم ليس رأيا منزَّهًا عن الخطأ ولكنه يحتمل فقط الصواب، وعلى الفنان أن يستفتى عقله وقلبه ولو أفتوه.