«أنا مت فى حبى وجُم الملايكة يحاسبونى» أغنية رددها سيد درويش قبل نحو 85 عاما، وأعادها مؤخرا إيهاب توفيق، اعترض عليها الأزهر الشريف، فاعتذر بل وندم إيهاب على غنائها، وتمنى أن يسامحه الله على تلك المعصية. لست متأكدا إن كان الأزهر هو الذى اعترض أم بعض الشيوخ المنتمين إلى الأزهر، لأن هناك فارقا بالطبع بين رأى شيخ فى الأزهر ورأى الأزهر. فى كل الأحوال، ما يعنينى هو رد فعل المطرب الذى ندم ولم يكرر غناءها مرة أخرى. هل ما أغضب رجال الدين أنه ميت فكيف يتكلم، أم جُم الملايكة يحاسبونى؟ أعتقد أنها الثانية، هناك حساسية ما تنتاب رجال الدين عند ذكر الملائكة، رغم أنها فى اللغة الدارجة كثيرا ما تُستخدم عندما يصف الحبيب حبيبه.
لقد سبق أن تعرضت أم كلثوم لهجوم ضارٍِ بسبب أغنيتها «الحب كله» التى تقول فى أحد مقاطعها «يا أرق من نسمة وأجمل من مَلك»، بعدها صارت تخشى من الاقتراب من الملائكة. حكى لى الملحن الموجى الصغير -شفاه الله- أن أغنية «اسأل روحك» التى لحنها والده لأم كلثوم كان بها مقطع فى نهايتها به كلمة «ملايكة»، فاستشعرت أم كلثوم أنها ربما تجد نفسها فى حرج مع رجال الدين، حيث كان الشيخ كشك فى تلك السنوات كثيرا ما يوجه إليها انتقادات علنية لاذعة، فقالت للموجى بخفة ظل «يا موجى اصرف الملايكة». ما يعنينى فى الحقيقة هو أن نجد فنانينا بهذا الضعف فى مواجهة أى غضب دينى محتمل، لا أقول إن عليهم إعلان الرفض والتحدى، ولكنهم لا يملكون الحد الأدنى، وهو النقاش، فيختارون أبسط الحلول وهو التراجع والاعتذار والخضوع.
القاعدة التى يجب أن تُصبح رهان الجميع هى فصل المرجعية الدينية عن تقييم الفن، لا يمكن أن تضع العمل الفنى تحت ترمومتر الرؤية الدينية، سواء أكانت رسمية مباشرة مثل الأزهر أو بعض الشيوخ بعد أن أصبح بعض الفنانين من حوارييهم.
كثير من الفنانات خصوصا المحجبات منهن تكتشف أنهن فى دفاعهن عن قبول عمل فنى أو لتبرير الرفض يصعد اسم الشيخ، وتستمع إلى من تقول سألت الشيخ فوافق أو اعترض، والمقولة الشهيرة المنسوبة إلى الشيخ الشعراوى وهى أن الفن حلاله حلال وحرامه حرام، مثل الإناء قد تضع فيه الماء فيصبح حلالا بلالا، أو تضع فيه الخمر فيصبح محرما، الحقيقة أن كل هذه التفاصيل ترى فيها أيضا خضوعا لمرجعية دينية فى تقييم الفن تحيله إلى قضية حلال وحرام.
رجال الدين يميلون عادة إلى زيادة مساحة الهيمنة على كل مناحى الحياة، رجل الدين ليست لديه إلا مرجعية متعلقة بالكتب السماوية، وهى بطبيعتها المقدسة لا تحتمل النقاش، وليس من المنطقى أن نطلب من رجل الدين أن يتجاوز عن ذلك، ليرى الأبعاد الأخرى فى العمل الفنى، لأنه سيتوقف فقط أمام ظاهر الكلمات، ولن يبحث عن الأعمق ولا عن رؤية الشاعر ولا نبرة الأداء.
كلنا أسرى لخبرتنا وثقافتنا، ورجل الدين حتى لو كان ممن يطلقون عليه مستنيرا ستجده فى نهاية الأمر يقيس الأمر طبقا لرؤية دينية مطلقة بطبيعتها. كان الشيخ محمد الغزالى يبيح صوت المرأة، ولكنه يقول أستمع إلى امرأة تقول «أنا الشعب أنا الشعب» يقصد أم كلثوم، ولا أستمع إلى رجل يقول «ليلنا خمر» يقصد عبد الوهاب، لو طبقنا ذلك على أغانى أم كلثوم سنجد أن الشيخ المستنير يمنع 90% من أغانيها ولن يتبقى سوى تسجيلاتها الدينية والوطنية.
القضية موغلة فى القدم، وبعضها يسفر عن منع أغنيات استجابة لرأى الجهة الدينية، مثلا أغنية عبد الوهاب «من غير ليه» اعترض عليها الأزهر قبل أكثر من 25 عاما، ولكن الإذاعة تضع الأغنية على الخريطة منذ ذلك الحين، لم تستطع تلك الأفكار المتزمتة أن تفرض إرادتها على الإبداع فى مصر، ولكن مع الأسف بعض الفنانين يرفعون أيديهم استسلاما.
تلك النظرة القاصرة ليس مسؤولا عنها الجمهور، بل الفنان الذى يخضع وقرر أن لا يناقش أى اعتراض هو الذى يسمح لتلك المواقف بالذيوع والانتشار.
اعتراض رجال الدين على أغنية أو فيلم ليس رأيا منزها عن الخطأ، ولكنه يحتمل فقط الصواب، وعلى الفنان أن يستفتى عقله وقلبه ولو أفتوه.