إن علاقة المصريين بجيشهم العظيم علاقة مميزة و غريبة تستحق التوقف عندها و المتابعة... فعادة ما يفخر المواطن بجيشه بناء على عدد الإنتصارات العسكرية التي حققها أو كم الخسائر و التضحيات التي قدمها من أجل الوطن...و بهذه الحسبة البسيطة ستجد لدى الجيش المصري النصيب الأكبر من الهزائم و الإخفاقات العسكرية في حروب أرى أنه (في أغلب الأوقات) اضطر أن يخوضها منذ حرب 48 في فلسطين و حادثة الأسلحة الفاسدة المشكوك فيها تاريخيا (ففكرة الأسلحة "الفاسدة" تصلح إذا كنا نحارب بحبات الطماطم) ثم حرب 56 التي ندعي أننا استطعنا ردع ثلاث جيوش متطورة...والحقيقة أنها معركة تم حسمها بمكالمة تليفون من السيد أيزنهاور رئيس الكرة الأرضية في ذلك الوقت ... و مع شوية محايلة وافقت الثلاث دول وقف العمليات العسكرية في مصر... و لا يجب أن ننسى صمود و بسالة "المواطنين" أهل القنال أمام ذلك العدوان الذي لم يكن ليُحسم لصالحنا بالحسابات العسكرية التقليدية... و طبعا كانت آخر الأحزان معركة الخامس من يونيو و تدمير قوام الجيش بالكامل . و لكن من المهم أن نفهم من الذي أتى بالعسكر من ثكناته إلى سدة الحكم؟! هذا الجيش العظيم الذي بناه مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا (ألباني الجنسية) لكي يحقق طموحاته السلطوية المستقلة عن الأسِتانة في تركيا... ذلك القائد الطموح الذي أتى إلى البلاد بمحمية صغيرة فوجد في المصريين ضالته و كان الإتفاق التاريخي " الجند مقابل الغذاء" أو فلنقل مقابل .... الدولة.. تحالف مع الإسلاميين (مع تحفظي على المسمى) و يمثلهم الشيخ الأزهري الشهير عمر مكرم...في أول إتفاق بين العسكر و التيار الديني.. و لا تحتاج إلى كثير من الإطلاع التاريخي حتى تعرف أن هذا الإتفاق إنتهى بنفي عمر مكرم و القضاء على تياره.!!!
شهد المصريون حالة نهضوية حقيقة تحت حكم العسكر، جعلتهم يلتفون حول ذلك القائد و يمدونه بالفلاحين ليصبحوا طوعًا و كراهية جنود في "الجيش المصري" و في المقابل أعطاهم العسكر الكرامة و التفاخر و الطرق و الخبز و القناطر و الحماية والأمان و ..... الدولة.... فمفهوم الدولة كان قد تلاشى في القرن ال 19 ... بعد أن سادت الفوضى و قسمت مصر بين مجموعة من المماليك المتناحرين سياسيا و مجتمعيا... فكان سهل على "محمد علي" الإنقضاض عليهم بمباركة شعبية.
في آخر عهد تلك الأسرة العريقة أصاب المصريون حالة من الملل المجتمعي.. فمصر دولة زراعية هادئة... تمتلك حياة سياسية ديموقراطية ناضجة إلى حد كبير (مقارنة بما حدث لمصر منذ إنقلاب الضباط الأحرار و حتى يومنا هذا) تخرج المظاهرات، تقال حكومات، حرية لا بأس بها في التعبير و العمل الصحفي.... كانت (و مازالت) المطالبة بممارسات أوسع للعمل السياسي رفاهية لأغلبية المصريين فالفلاح المصري (أغلبية الشعب) لديه مشاكل من نوع أخر تمس أكل عيشه وكرامته...أشياء لم تعد الأسرة الحاكمة توفرها كما كان جدهم العسكري الأكبر يفعل
.... مصر مثل دول كثيرة في أفريقيا تحت الإحتلال عانت من أشكال عديدة من السخرة و سوء المعاملة و قلة المردود أمام قسوة العمل..لم يبذل السياسيون في ذلك الوقت الجهد الكافي لمنع ذلك و فشلوا في تمثيلهم التمثيل الحقيقي في المجالس النيابية أو المؤسسات الحكومية... فخرجت الدبابات من ثكناتها على غير موعد أو إتفاق شعبي... في ثاني تعاون بين الجيش و الإسلاميين الممثلين هذه المرة في جماعة الإخوان التي قررت إعطاء الضباط الأحرار الزخم و الحشد الشعبي المفقود..
حوصر ملك مصر و السودان (و غزة) الحاكم الشرعي للبلاد في قصره... و أدت جماعة الإخوان دورها ببراعة في نزع صفة "إنقلاب" عن تحرك يوليو بوجودها كقوة مدنية (أو شبه مدنية... فجماعة الإخوان كان لها متطوعين يحاربون في أرض فلسطين)... استشعر الملك فاروق أن بحور من الدماء قد تسيل ...و لم تجدي نداءات الإستغاثة بالغرب و رسائله المتكررة للتدخل لحماية الشرعية.. فقرر دخول التاريخ و حقن دماء المصريين و استجاب للحشود المتدافعة و قال جملته الشهيرة "إن نقطة دم مصرية أثمن عندي من كل عروش الدنيا، و الرحيل فورًا أهون على قلبي من سفك دماء مصرية حفاظا على منصبي" – الملك فاروق 1952
أدرك ناصر الشاب الصغير و رفاقه أنه في حاجه إلى التأييد الشعبي، فأسطورة الملك العربيد و الأسلحة الفاسدة لن تصمد طويلا أمام تطلعات المصريين الجمهوريين لأول مرة في تاريخهم فكانت كرامة المواطن و محاربة السخرة في طليعة خطابات ووعود الإنقلابيين من الضباط الأحرار و جماعة الإخوان... و بالفعل دقت طبول الحرب و تم الهجوم على ممتلكات الأسرة المالكة ثم الإقطاعيين بدعوى تنفيذ العدالة الإنتقالية التي مع مرور الوقت تحولت إلى عدالة إنتقامية... و من أجل ذلك كان يجب تعطيل الحياة السياسية و تفعيل القوانين الإستثنائية لفترة قصيرة إستمرت 60 عاما و دارت الآلة الإعلامية تطبل وتصفق لزعيم الأمة العربية و ظهر المتحولون.. فتوقفت كوكب الشرق عن الغناء للملك و غنت لناصر... حاجة كدة زي تسلم الأيادي و لم يسلم كبار فنانين مصر (الوطنين) من تقديم أعمالهم كقرابين للمجلس العسكري (المسمى مجلس قيادة الثورة .. طبعا شهدت مصر حالة من الإنحدار في الذوق النفاقي فأغنية يا جمال يا مثال الوطنية لأم كلثوم تحولت ل تسلم الأيادي و اخترناك و بايعناك..
كانت هذه الممارسات كفيلة بخلق حالة من الكراهية بين الجيش و الديموقراطيين.. فمصر تحولت إلى دولة الرجل الواحد والحزب الواحد و الإعلام الواحد و الفن الواحد و ما دون ذلك يُنكل به...و كان أول ضحايا التنكيل شريك الإنقلاب الوفي، جماعة الإخوان المسلمين...و انتهى الزواج الكاثوليكي الذي لم يدم طويلا و تحولت الجماعة في لحظة تتكرر كثيرا من المحظوظة إلى المحظورة... و هتف الشعب للجيش و سانده في حربه على الإرهاب بعد محاولة الإغتيال الفاشلة في المنشية و إلتف حول زعيمه ناصر... ناصر الغلابة...الذي وزع عليهم الأراضي في حربه ضد الإقطاعيين التي نالت الصالح و الطالح و غنى الشعب العاشق لأي زيطة فدادين خمسة خمس فدادين....
استمر الجيش المصري في بناء جسور التواصل مع الشعب، و أصبح المصريون يرفعون رأسهم (بجد) وسط الأمم العربية والغير عربية....فبالرغم من إخفاقات ناصر العسكرية إلا أن الشعب حقًا كان يحبه و ليس على إستعداد أن يدعه يتنحى ويرحل (خصوصا بعد ما لبسنا في الحيط سنة 67).. حاول الكثيريون أن يثبتوا أن الحشود التي خرجت في الشارع تطالب ناصر بالبقاء كانت مدفوعة و مفتعلة... تبخرت تلك المحاولة في مشهد جنازة الرجل المهيبة .. فالرجل كان يمثل حالة تعيشها معظم الشعوب العربية المتحررة (نسبيًا) من المستعمر الأجنبي... الثائرة في وجه ثوابتها المفروضة عليها.. والمتشوقة للكرامة و العزة.. حتى لو كان ذلك على حساب إخفاق عسكري أو تدهور إقتصادي..
قام الجيش ببناء الدولة مرة آخرى و كأن التاريخ يُعيد نفسه.. .. فمحمد علي الذي بنى الدولة المصرية الحديثة في الأساس لخدمة جيشه .. تبدل بناصر زعيم الأمة العربية و قائد الثورة الصناعية في القرن العشرين... تم بناء المصانع الحربية والصناعية و السد العالي لتوفير الطاقة و حماية الأراضي من الفيضانات و لم ينسى حق كل مصري في التعليم فجعل كل مراحل التعليم مجانية.. إذا لماذا يكره المصريون العسكر؟!
إنتقلت حالة السخرة التي كان يعيشها الفلاح المصري تحت سلطة الإقطاعيين لتستقر في الجيش المصري. فلا تجد عائلة لم تمر باختبار إنتظار نتيجة التجنيد بعد تخرج أبنائها... يتضرعون ليل و نهار و يحتفلون إذا كانت النتيجة "لم يصبه الدور" وآخرون في حزن و بؤس.. تسأله "ها عملت ايه؟!" فيرد بحزن.."لِبست" .. فهو يرى أن الجيش مضيعة لسنة أو ثلاث سنوات من عمره ... ده غير الذل و المهانة.. لا تخدمك علاقاتك كثيرًا.. فالوسايط في الجيش مختلفة شوية عن خارجه... فإذا كنت بتعرف تسوق و عندك عربية... فغالبا انت اللي حتجيب أولاد الباشا من المدرسة و توديهم التمرين... و مافيش مانع إنك تديهم شوية دروس خصوصية لو الإنجليزي بتاعك كويس .. في المقابل حتحصل على خاصية المبيت في بيتكم و ليس في المعسكر و حتقدر تصيف في مارينا عادي...و لكن الصورة ليست ظلامية هكذا لكل شباب مصر.. فهناك مجموعات كثيرة تذهب للجيش تطوعًا حتى إذا لم يُصبها الدور... فهؤلاء يبحثون عن إمتيازات الضباط من مرتب لا بأس به و خدمات خاصة لهم و لأبنائهم... و منهم أيضًا الفخورين بقصص الآباء في محاربة أعداء الوطن و الإلتحاق بالجيش المصري هو غاية أمانيهم.
إذا لماذا يكرهون العسكر؟
الديموقراطيون يكرهون العسكر لأن المؤسسة العسكرية بطبيعتها غير ديموقراطية... فلا يمكن أن تُدار بالصندوق
التيار المحافظ يكره العسكر بعد أن ينتهي دوره في إعطاء شرعية للإنقلابات العسكرية
بعض الشباب الصغير يكره العسكر لأنه حيضيع مستقبله
أما الشعب... من الفلاحيين و العمال و الطبقات الكادحة و بعض رجال الأعمال.. فالعسكر هو المنقذ....حامي البلاد... ..ناصر الغلابة .... العسكر هو من أنقذ ضحايا الزلازل و سقوط صخرة المقطم على الأهالي.... هو من حل أزمة الخبز ببناء أكشاك التوزيع و مضاعفة الإنتاج....العسكر هو من أحبط شغب الأمن المركزي في الثمانيات و هو من أزاح محمد مرسي و أعاد الكهرباء و البنزين و السولار
العسكر عند أغلب المواطنين هو المؤسسة التي تستمع إليهم و تستجيب إلى مطالبهم... بدون فوقية المثقفين الذين لا يكفون عن إتهامهم ببيع أصواتهم و مناداتهم بعبيد بيادة و الفلول.. لمجرد أنهم لا يملكون رفاهية الإعتراض و القدرة على التعبير..... لديهم أحلامهم و إلتزاماتهم الإقتصادية التي لم تحققها القوى الإسلامية أو النخبوية... هؤلاء يحبون العسكر