في أكثر من مناسبة، شكك «الأنبا شنودة» وغيره من ممثلي الكنيسة الأرثوذكسية، في نسبة الأقباط المعلنة طبقاً لتعداد السكان في مصر، وهو تشكيك أتي ثماره علي أية حال، إذ توقفت الجهات الرسمية عن إعلان النسبة، التي يمكن معرفتها برغم ذلك عبر مراكز الأبحاث الموثوقة، والبيانات التي يتم إبلاغها إلي المنظمات الدولية كمنظمتي «الفاو» و«الصحة العالمية»، ومنها إحصاء المواليد والوفيات. وكلها بيانات تؤكد ما ذهب إليه «د.جمال حمدان» في «شخصية مصر»، حيث ذكر أن متوسط تعداد المسيحيين من العام 1907 وإلي العام 1966م يتراوح بين 6 و8% من سكان مصر. ولا يهمني هنا مناقشة ما ورد في هذه الإحصاءات من أرقام، بل ألفت نظركم أولا إلي خطورة الذهنية الطائفية التي تربط بين «التعداد» و«الاستحقاقات المدنية»، مع المطالبة بتوزيع المناصب والمواقع القيادية طبقاً للنسبة العددية، وهو منطق يجافي منطق بناء الدولة، متخذاً «الدين» أساساً وضابطاً للحصول علي المزايا أو الاستحقاقات ما ينسف أي حديث عن «المواطنة» و«الدولة المدنية»، ويساوي «الوطن» ب«شركة المحاصة»، حيث يتوقف نصيبك من الأرباح علي حصتك من رأس المال، أو يحوله إلي «جمعية» يقبض المشاركون فيها بقدر ما دفعوا. منطق يقسم مصر ولا بد إلي أغلبية مسلمة وأقليات (مسيحية ويهودية)، مع مطالبة بعض من يتحدثون باسم الأقباط بنصيب الأسد من حصة الأقليات، وأحيانا بالحصة كلها، باعتبارهم الأكثر عددا بينهم. ولبيان خطورة هذا المنطق، أقول: تعالوا نسايره، ونري! إن أشد التقديرات تطرفا لا تتحدث عن أكثر من 20% من غير المسلمين، مقابل 80% من المسلمين، وهي تقديرات كنسية خالصة، يقول أصحابها إنها تأتي بناء علي بيانات من تم تعميدهم. التي لا يمكن اعتبارها إحصاء منضبطاً، إذ تسجل من تم تعميده، ولا تسجل من مات في الغربة، كما لا تسجل الوفيات الحكمية (نظرا لاختلاف معايير الحكم بالوفاة عما هو وارد في القانون)، ولا تسجل من غيروا ديانتهم، وهم من الأقباط وحدهم 50 ألف شخص يعتنقون الإسلام بمحض إرادتهم سنويا، حسبما قاله الأنبا مكسيموس، في حواره علي قناة «الجزيرة» مستنداً إلي مصادر كنسية، إضافة إلي ما ذكره الأنبا بيشوي من التحول نحو الكنيسة الإنجيلية. ووجه آخر من وجوه عدم ضبط هذا الإحصاء هو أنه لا يخضع للمعايير العلمية، ولا لرقابة المنظمات الدولية التي يخضع لها إحصاء الدولة ومستنده الوحيد هو دفاتر الكنيسة، لكن دعونا نفترض صحة ما ذكره عدد من المصادر الكنسية ما دام الطائفيون يتمسكون به، وعملا بمثلنا المصري القائل «اللي ما يهاودكش.. هاوده إنت» دعونا نساير من يعتبرون الدين أساساً للمواطنة والاستحقاقات المدنية، نسايرهم في منطقهم، وفي إحصائهم، وستكون النتيجة الحتمية هي أنه وفي إطار نظام ديمقراطي، يتم فيه اختيار القيادات عبر انتخابات عامة، سيستأثر المسلمون وحدهم، وحصريا، بكل المناصب والمواقع والمزايا، التي تقول قواعد الانتخابات إنه يكفي لنجاح المرشح فيها أن يحصل علي 50% من الأصوات + صوت، فما بالكم بمن يملك 80% من الأصوات (مرة واحدة)! النتيجة الحتمية لاعتماد المنطق الطائفي هي لا شيء للأقلية، ذلك أن المسلمين في مصر لا يشكلون أغلبية كاسحة عامة فقط، بل هم ومن دون شك الأغلبية علي أساس المناطق والأقاليم أيضاً، الأغلبية في أي دائرة انتخابية، ومهما حاولنا ولو بالتلفيق إعادة توزيع الدوائر، فإن الحال سيبقي علي ما هو عليه. إن هذه النتيجة المنطقية تكشف أمامنا خطر اللعب بنار الطائفية علي اللاعبين بها قبل غيرهم، كما تكشف وجه المزايدة عند هؤلاء الذين يتحدثون عن «المواطنة» بينما هم يرفضون قبول أحد أبسط الخلاصات القانونية للدولة (تعداد السكان)، من دون أن «يكلفوا خاطرهم» بتأسيس هذا الرفض علي أسباب موضوعية. وتأكيداً للنظرة الطائفية فإنهم يرفضون نتيجة التعداد لأنها لا تعجبهم، متمسكين بنتيجة أخري لا تطابق المعايير توصلوا إليها «بمعرفتهم»! من دون أن ينقدوا قانونية الإحصاء ولا علمية معاييره ولا دقة خطوات إجرائه. ربما لأن الرد الموضوعي هو الآخر جاهز ومعلن، لا من جانب الدولة المصرية، بل من جانب المؤسسات الدولية، والباحثين غير المصريين ولا المسلمين، ومنهم الفرنسي «فيليب فارج» الذي يرد علي مزاعم التقليل المتعمد لنسبة الأقباط في تعداد السكان عبر إخفاء البيانات الصحيحة قائلا: «كيف يمكن لهذا الإخفاء أن يؤثر بتواتر واحد وعلي الأجل الطويل علي عمليتين مستقلتين، هما عملية التعداد الدوري للسكان وعملية تسجيل المواليد؟». ومغالطة الحديث عن «المواطنة»، مع رفض «الدولة»، عبر الخلط المتعمد بينها وبين «الحكومة» أو «النظام الحاكم»، هي ما دفع البعض علي الجانب الآخر إلي تبني ممارسات «الحكومة» دفاعاً عن «الدولة» في خلط يقابل خلطاً، ومغالطة ترد علي مغالطة، والنتيجة تراكم المزيد من الأخطاء، مع مزيد من التعقيد والتشابك، ثم إنها ليست هي المغالطة الوحيدة في هذا الملف، إذ هناك أيضاً وكما أشرنا مغالطة الحديث عن «دولة مدنية» و«علمانية» مع الحديث في الوقت نفسه عن تقسيم الحقوق علي أساس طائفي! وثمة مغالطة ثالثة وليست أخيرة هي الحديث عن كل غير المسلمين في مصر باعتبارهم مسيحيين، ثم الحديث عن كل المسيحيين باعتبارهم أقباطاً، علي الرغم من الخلافات الكبيرة والجذرية بين الطوائف المسيحية المختلفة، والتي تتمثل في مصر في أتباع الكنائس لا الكنيسة الأرثوذكسية، ومنهم الأقباط. ثم هناك بالمثل أتباع الكنائس الكاثوليكية، والكنائس الإنجيلية. صحيح أن الأقباط يمثلون نحو 80% من إجمالي غير المسلمين في مصر، لكن هذا لا يلغي حقوق الآخرين، كما لا يطمس الخلافات، والتي يعد التحريم الكنسي للتزاوج بين الأقباط الأرثوذكس وبين غيرهم من أتباع الكنائس الأخري أوضح تجلياتها، ولنلاحظ هنا أن «التحريم» هو الأصل، لدرجة أن التزاوج بين أبناء الطوائف المختلفة ليس ممكناً قبل التوصل إلي اتفاق كنسي، حتي داخل الملة الأرثوذكسية، وذلك حسب الخبر الذي نشرته صحيفة «الشروق» وأشرت إليه في مقال سابق، وفيه ذكرت الصحيفة علي لسان من سمته مصدراً من كبار الأساقفة الأقباط أن «هناك اتفاقية تبادل اعتراف بالزواج والتناول مع الروم الأرثوذكس عمرها أكثر من ثماني سنوات». أما الكاثوليك، فقد رفض رهبان دير سانت كاترين الأقباط السماح لبابا الفاتيكان السابق، أثناء زيارته مصر، بأن يتجاوز فناء الدير. وأما الإنجيليون فإن الخلافات، بل الصراعات، الطائفية بينهم وبين الأقباط شديدة الوضوح، ويعكس جانباً منها تقرير نشرته صحيفة «روز اليوسف» في 22 من نوفمبر 2009، وفيه نقرأ: «أما عجب العجاب حقا فهو ما أفضي به الشيخ عزت إبراهيم راعي الكنيسة الأرثونجيلية «الكنيسة الإنجيلية الأرثوذكسية المشتركة» الموجودة حتي الآن بقرية منشأة الدهب القبلية المعروفة لدي المنياوية بقرية العبيد، والتي أفردنا لها مقالا خاصا تحت عنوان كنيسة مشتركة. لقد أعيته الحيل لوضع يده علي الجزء القليل الخاص بكنيسته الإنجيلية بإقامة حائط فاصل بين الكنيستين لفض هذا التداخل ويصبح لكل طائفة مبناها المستقل ولكن هيهات، لقد أشعلها الجانب الأرثوذكسي وأعلن تخوفه من استقلال الكنيسة الإنجيلية بمبني مستقل ويصبح لهم اليد العليا به، ويأخذون الصلاة فيه طوال أيام الأسبوع، الأمر الذي يجذب شعب القرية لهم وتضيع الكنيسة الأرثوذكسية التي أعلنت أنها لن تمكن الإنجيليين من ذلك أبدا حتي يرحلوا ويتركوا البلد تماماً للأرثوذكس». .. «حتي يرحلوا ويتركوا البلد تماما للأرثوذكس»!! أليست هذه هي العبارة نفسها التي تتردد ضد المسلمين في المظاهرات والمواقع والإصدارات الطائفية؟