فى القاهرة قابلتها قبل عام من الآن، ملأى بالأمل وعيناها تبرقان بمستقبل ترسمه وبنات وأبناء جيلها لمصر حلموا بها، مصر حيث الإنسان هو القيمة العليا. ناشطة جدًّا ومتفانية فى خدمة قضية حملتها، وقفت وصرخت لا للتحرش، لا للتمييز بين أبناء وطن واحد على قاعدة اللون أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية، مقالاتها التى انتشرت فى أوروبا احتوت على تحليل عميق للثورة تناقض مع الرواية التى يحلو لأوروبا تبنيها عن ربيع عربى، لم يكن لأى ممن فجَّره أى علاقة بهذه التسمية الرومانسية التى عكست سطحية الاستشراق الأوروبى، الذى فشل ويفشل فى سبر أغوار العلاقات المعقدة التى تحكم الحراك الذى أفرز حالة جديدة لا يمكن بأى حال من الأحوال ربطها بما يدَّعى الآخرون أنه المسبب.
مريم التى أعتز بمعرفتى بها التى أعتز برفاقية تربطنا وأحلام تجمعنا، كانت دائمًا تمدنى بطاقة هائلة للحلم وتمدنى بدفعة معنوية هائلة، عشرون عامًا تفصلنا لكن مريم كانت تعلمنى دروسًا فى النقاء والثورية. اليوم، آخر يوم لى فى القاهرة ها هى مريم، كانت مشغولة جدا طوال الأسبوعين الماضيين فى إدارة عمليات قوة ضد التحرش ولم نستطع خطف ساعة من الزمن للقاء وفى آخر يوم لى فى القاهرة التقينا. كان حزن عميق وانكسار غريب يستوطن عينَى مريم، دموع فى طرفى عينيها كانت على وشك الانهمار فى أى لحظة، كان هناك صراع هائل ومحاولات مستميتة لإبقائها حيث هى. انتهى كل شىء اليوم، لم تعُد لى ثورة، عامان من العمل بخلق مساحة آمنة للتعبير وحرية لا تمييز فيها بين من يعارض ومن يؤيد ضاعا هباءً، اتهمت بتأييد فاشية دينية، أنا المسيحية، لأننى قلت لا للدم، الدم حرام حرام حرام.
لم يتح لنا ضيق الوقت الخوض عميقًا فى الموضوع، ولم تستطع كلماتى المتلعثمة أن تعطيها أى أمل، ودعت مريم وخرجت، أكتب هذه الكلمات وأنا أنتظر طائرتى ليغادر جسدى تراب مصر وتبقى مصر فىَّ. أترك مصر وأنا قلق، أتمنى أن يوم 8 يوليو لم يحصل أو أن فجوة زمنية أخذتنا فى لحظة النشوة التى غمرتنا لرؤية الصحوة الرائعة والإرادة الشعبية التى عبرت عن ذاتها فى طوفان بشرى غير حسابات العالم وخلط كل الأوراق فى المنطقة والعالم، أتمنى أن يوم 8 يوليو لم يحصل وأن عينَى مريم لم تكونا حزينتين أو منكسرتين. أترك مصر وأنا أعلم أن فراقى لها لن يطول.
لا يمكن لأى متابع إلا أن يرى المسؤولية المباشرة لقيادة جماعة الإخوان المسلمين عن أحداث الحرس الجمهورى، فحملة التحريض ودعوات العنف التى التى أطلقها قادة الجماعة كانت تجر باتجاه مواجهة مباشرة مع الوطن ومحاولة خلق وهم بأن حربًا أهلية على وشك الوقوع، لكن ذلك لا يمنع من أن هناك مسؤولية مباشرة عن الأحداث تقع على عاتق قوى الأمن والجيش، فرغم كمّ التحريض المنفلت كان يجب التعامل مع الحادثة بطريقة أخرى تقلل من حجم الضحايا لأن الدم كله حرام. يجب الخروج من الأزمة دون استخدام أساليب شيطنة الآخر ومحاولة فهم أن الجانب الآخر يمر بأزمة وجودية، فمن موقع التمكين والسلطة إلى موقع المحاصر المرفوض شعبًّا قبل أن يكون محاصَرًا ومرفوضًا من قِبل مَن هم فى السلطة.
أزمة الإخوان وتشبثهم بالسلطة جعلتهم يرمون بحلفائهم فى أتون معركة ليست معركتهم ويجعلونهم فى موقع غاية فى الصعوبة، شعبيًّا، فالاستقبال الرائع الذى استقبل به أبناء مصر اللاجئيين السوريين انقلب إلى إحساس بالخيانة، بسبب زج الإخوان لبعض اللاجئين السوريين فى أتون الصراع الداخلى، وكذلك الأمر مع أبناء غزة من الفلسطينين، فانقلب التضامن التاريخى إلى شعور بالأسى والغضب.
أنا على قناعة أن مصر ستخرج من هذه الأزمة أقوى وأنضج، لكن يجب عدم السماح لدعوات العنف أن تُعمِى أعيننا عن أن المستقبل فى الشفافية وأن من ارتكب جريمة يجب أن يعاقَب، فى أى موقع كان، ومن أى جهة كان. العيون تصبو إلى مصر، فهى تمرّ فى مرحلة حساسة ومهمة لكل المنطقة، فما سينتج عن الأحداث سيشكِّل دافعًا أو مُحبِطًا لأحداث أخرى على نفس النمط فى كل المنطقة، فإن اجتازت مصر الأزمة بحكمة واحتوت دعوات العنف فإنها تعطى الدافع للآخرين لأخذ نفس الطريق، لذلك فإن آمال كثيرين تتعلق اليوم بمصر.
سأكون بعيدًا بلا حول ولا قوة، لكنى أستودعكم جيلًا رائعًا، لا تسمحوا لأى شىء أن يهزّ هذا الجيل أو أن يكسره، أعيدوا الأمل إلى عينَى مريم، أعيدوا الأمل إلى هذا الجيل.