لا يُطرح سؤال الهُوية إلا فى لحظات المواجهة مع الآخر، سواء كانت لحظات مواجهة ناعمة «كما فى أى لقاء حضارى» أو خشنة «فى حالة الاستعمار». الاستعمار فرض السؤال مرتين على مصر فى عصرها الحديث، مرة بوصول جيش نابليون، ومرة بوصول جيش الإنجليز. وربما بسبب عدم استمرار الجيش الفرنسى فترة طويلة فى مصر، وربما بسبب السمعة الطيبة لكتاب وصف مصر والسمعة الأطيب لهيرودوت لا تستعاد تلك اللحظة إلا باعتبارها مواجهة ناعمة، بل إن الكثيرين يفضلون تدشين لحظة الحداثة فى مصر بهذه المواجهة، ولعل الاحتفالية التى تقام فى البلدين فى ذكرى الغزو دليل على ذلك! سؤال الهوية فى لحظات المواجهة الخشنة يكون هو نفسه سؤالًا خشنًا، ولا يمر إلا بجراح، بل إنه يكون عادة مدعاة لكثير من الصراعات والحروب «الثقافية» الداخلية. بإزاء السؤال ينقسم الجميع لتيارين: تيار محافظ يجيب عن سؤال الهوية بطريقة نوستالجية، تؤجج الحنين إلى الماضى باعتبار أن كل الأمور كانت على ما يرام قبل لحظة المواجهة، وأن بالإمكان استعادتها مرة أخرى. وتيار تقدمى يجيب عن سؤال الهوية بطريقة نقدية، وبالطبع لا يصطف الجميع ما بين هذين التيارين بالدرجة نفسها، البعض يتطرف داخل التيار المحافظ لتصبح استعادة الماضى ليس فحسب الطريق الصحيح، لكنه أيضا الطريق الصحيح الوحيد، والبعض يتطرف داخل التيار التقدمى ليصبح المخرج من أزمة السؤال هو تجاوز السؤال نفسه والانقطاع المعرفى عن الماضى كله.
سؤال الهوية ليس السؤال المحورى فى دولة كمصر تحاول استكمال مخاضها الحضارى منذ قرنين تقريبًا فحسب، لكنه السؤال الإشكالى أيضا. يمكن تخيل قدر الألم فى هذا السؤال بالنظر إلى أن جزءًا كبيرا من إشكالية السؤال سببه ضغط الإجابة تحت وطأة الاستعمار.
سؤال الهوية إذا ظل ملاحقًا بلحظة الاستعمار للدرجة التى فرضت على المحافظين استبعاد الآخر من المعادلة الثقافية كلها واتهام التقدميين دائما بأنهم عملاء لهذا الآخر المستعمر، ولأن هؤلاء المحافظين -لأسباب عديدة-0 هم الأعلى صوتًا والأكثر شعبية لأسباب لا محل لها الآن فإن التقدميين وجدوا نفسهم طوال الوقت مدفوعين لإنكار الاتهامات المصوبة لديهم أكثر من الانشغال بصناعة مشروع ثقافى يجيب عن سؤال الهوية بحرية. يمكننا استعادة المشهد السياسى بعد ثورة يناير لنتأكد من ذلك فقد اضطر ضغط اليمين الدينى العلمانيين للاستمرار فى تقديم دفوعات بدلا من طرح مشروع علمانى والدفاع عنه وعن مشروعيته، بل إنهم لم يبذلوا أى جهد لشرح معنى العلمانية والدفاع عن المصطلح بدلا من تغطيته بمصطلح مراوغ كالمدنية مثلًا. ولعلنا نتذكر أيام استفتاء مارس الأسود الذى رفعت فيه شعارات بائسة من قبيل «لا للدستور مع الحفاظ على المادة الثانية». أقول شعارات بائسة لأنها كانت بمثابة إعلان هزيمة استباقى من قبل العلمانيين أمام الأصولية الدينية رغم أن المعركة لم تكن قد بدأت بعد.
إشكالية سؤال الهوية مرة أخرى فى أن الإجابة عنه خضعت وتخضع للطرف المحافظ الذى فرض ويفرض رؤيته للهوية باعتبارها جوهرًا وليس باعتبارها تجربة وتفاعلًا وفعلًا وصيرورة، ما يعنى أنها هوية ثابتة يمكن تثبيتها عند لحظة زمنية بعينها، تُختار طبعا بعناية لأسباب أيديولوجية، فأمكن لليمين الدينى تثبيت هويتنا عند القرن الأول الهجرى وتثبيت هوية الآخر عند لحظة الاستعمار، ومن ثم إعادة إنتاج التاريخ باعتباره مواجهة بين المؤمنين والكفار، بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، بين المسلمين والصليبيين، وليس أوضح من شعار «الإسلام هو الحل» قرينة على فكرة النقاء الموهوم للهوية، كما لو أن الإسلام جوهر متعال إن جاز القول.
أزمة هذه الرؤية أنها تغفل -بقصد أيديولوجى أو بدونه- أن الهوية لا يمكن تثبيتها لأنها نتيجة تفاعل الاجتماع مع التاريخ، بدليل أن الهوية المصرية أمكنها -عبر التاريخ- أن تمتص عددا كبيرا من المفاهيم والإجراءات التى كانت لصيقة الهوية الغربية، كالديمقراطية مثلًا التى تم استيعابها من قبل أكثر التيارات اليمينية تشددًا كالجماعة الإسلامية مثلا، وهو ما لم يتحقق بسبب المراجعات الفكرية للجماعة، إنما لتفاعل الجماعة مع التاريخ بعد الثورة، ومن ثم فإن تفاعلها فرض عليها قدرًا من العلمنة -ولو ضئيلا حتى الآن- أمكن إلحاقه بصياغتها عن الهوية، هوية الأنا وهوية الآخر فى الوقت نفسه.
على الجانب الآخر فرض اليأس من إحداث توافق سياسى ما على التيار العلمانى التقدمى -أو هكذا يجب أن يكون عليه الحال- تجاوز مرحلة الدفوعات وتقديم مشروعه تحت مظلة العلمانية وعدم الاستسلام لرؤية اليمين الدينى للهوية باعتبارها جوهرًا ثابتًا، ليتمكن من تقديم مشروعه العلمانى المتفاعل مع التاريخ ومع العالم ومن ثم المعنى هو الآخر بصياغة إجابة لسؤال الهوية تستوعب أمرين: أولهما أن الدين -حتى ولو كان الدين الشعبى أو دين الحرافيش بتعبير المستشار على فهمى- هو الركن الركين فى الثقافة الشعبية. وثانيهما أن العالم يتبدل بسرعة غير مسبوقة، وأن هذا التبدل يستلزم استحضار أكبر قدر مستطاع من العقلانية والعلمية، ومن ثم فإن أى مشروع للعلمانية لا يستهدف إنجاز خطة سريعة لمحو الأمية لا يعوَل عليه، وفى ظنى أن العلمانيين لو أرادوا كسب المعركة مع الأصولية ضيقة الأفق فعليهم العمل على المستقبل بداية من مشروع وطنى تتضافر فيه الجهود كلها لإنهاء مشكلة الأمية المزمنة. والله والوطن من وراء القصد.