تختلف مشاعر الناس فى مصر مما يحدث فى تركيا، تبعا لاختلاف موقفهم السياسي، فالإسلاميون يرون أن مظاهرات الأتراك انقلاب على النموذج الإسلامى الذى ارساه رجب طيب اردوغان فى تركيا، بينما ترى القوى المدنية المصرية أنها صرخة شعبية ضد محاولات تأميم الدولة التركية لصالح مشروع دينى تسلطى. الخلاصة أن كل منا فى مصر ينظر إلى تركيا من منظور ضيق وخاص جدا. تركيا تحتاج منا إلى توسيع المنظور أكثر من ذلك، لأننا إذا نظرنا إليها نظرة شاملة، وأخذنا فى الحسبان الكثير من التفاصيل المشتركة بيننا وبينهم، ربما يمكن الوصول إلى حقيقة مهمة، وهى أن ما يحدث فى تركيا هو نقطة فاصلة فى تاريخ الشرق الأوسط.
ميدان تقسيم فى استنبول هو الذى سيغير الشرق الأوسط.. وليس ميدان التحرير، رغم أن ذلك قد لا يرضى الكثير من المصريين على الجانبين الدينى والمدنى الذين يتصورون ان مصر هى محور العالم، وليست مجرد نجم يدور فى إطار كوكب أكبر منه، وداخل مجموعة إقليمية وليست هى محور الكون أو شمس العالم.
خطورة ما يحدث فى تركيا أنه أريد لها أن تصبح نموذجا يحتذى به العالم السنى، دولة مركزية قوية، يديرها تيار يتمتع بشعبية، يجرى تنمية اقصادية معقولة، وكل هذه العوامل كفيلة من وجهة النظر الأمريكية بالحد من التطرف الإسلامى، ومن ثم لا يصبح هناك داع لأن تصبح أمريكا هى الشيطان الأكبر الذى ينظر إليه الناس فى العالم الإسلامى نظرة العداء. هكذا فعل اردوغان فى تركيا خلال عشر سنوات من حكم حزبه بمرجعيته الإسلامية، صنع نموا استمر فى حدود 8% لعدة سنوات، قبل أن يتراجع ليصل العام الجاري إلى 2% فقط، وبالتالي كسب شعبية كبيرة، وحرك النعرات الدينية، وربما تغلب بها على بعض الخلافات والحروب العرقية داخل تركيا.. لكن هذا ليس كل شيئ.
إذا عدنا إلى مخطط الشرق الأوسط الجديد الذى صاغته وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس فى عهد جورج بوش الإبن، كان هناك تخطيطا لإعادة توزيع مراكز القوى فى الشرق الأوسط، لابد من الخلاص من القوى العربية القومية لصالح قوى إقليمة أكبر وأكثر قوة وليست عربية بالطبع.. وفى هذا السياق تصورت رايس وفقا لسيناريو الفوضى الخلاقة أن يغرق العالم العربي فى فوضى منظمة تنتهى بإسقاط النظم الحاكمة، وتأتى بنظم ذات شعبية ومصداقية لدى شعوبها.
لكن هذا التغيير فى الشرق الأوسط الجديد الكبير يقتضى توزيع مراكز الثقل والقوة ونقلها إلى أطراف الشرق الأوسط الكبير.. وفق هذا السيناريو تصبح القوى الأكبر وذات السيطرة التى يدور فى فلكها الصغار هى تركيا وإيران، وربما باكستان.. إلى جانب إسرائيل التى تتحول إلى القوة الأكبر داخل بؤرة ومنتصف هذا الشرق الأوسط الكبير المترامى، الذى تسيطر عليه قوى غير عربية.
فى تركيا الآن مظاهرات ضد الفاشية الدينية، كما يقول الأتراك، وأصبح هناك حديثا كبيرا عن أن الديمقراطية ليست فقط هى صناديق الاقتراع، وتحول أردوغان الذى روج أنصاره انه بانى تركيا الجديدة الحديثة إلى ديكتاتور.. وإذا أفلح الأتراك فى هزيمة أردوغان، فإن ذلك لا يعنى هزيمة مشروع الإسلام السياسي فى الشرق الأوسط فقط.. وإنما يعنى أيضا انتهاء الشرق الأوسط الأمريكي الجددي الكبير إلى الأبد.. ومن ثم نهاية النظم التابعة الضعيفة مثل نظام الإخوان فى مصر؟
ضعوا اعينكم على تركيا وأنتم تتحركون لإسقاط حكم الإخوان.. لأن ما سيحدث فيها سيؤثر علينا، وعلى كل المنطقة العربية.. وعلى الشرق الأوسط الصغير والكبير.. وربما تتغير قواعد اللعبة فى المنطقة من جديد.. أسرع بكثير مما تصور، من يجلسون فى الغرب، ويحركون البعض هنا كما الدمى أو قطع الشطرنج.