قبل بضعة أسابيع من الغزو الأمريكي للعراق، تفاجأ العالم بالحكومة التركية الجديدة ترفض قيام القوات البرية الأمريكية بدخول العراق عبر حدوده مع تركيا، وقتها فقط عرف العالم أن هنالك شيئا مختلفا في تركيا. ورغم أن حزب العدالة والتنمية قد ظفر بتشكيل الوزارة التركية عام 2002، وسط زخم فكري اجتاح العالم الإسلامي كله حول فكرة صعود الإسلاميين في تركيا لسدة الحكم، فإن القرار التركي الجريء حيال جيوش الاحتلال كان التقديم الفعلي لهذه الحكومة إلى العالم. وخلف هذا الحزب والحكومة بل وهذا الفكر يقف رجل نادر بكل المقاييس، اسمه رجب طيب أردوغان. وأردوغان ورفيق دربه عبد الله جول عملا من قبل عبر حزب ذي توجّهات إسلامية صريحة، فكان قرار الحل وفقا للدستور التركي سريعا وحاسما، لذا كانت العودة عبر حزب العدالة والتنمية، بعد أن قام أردوغان وجول باستقدام طبقة من الليبراليين الذين لا يعارضون الفكر السياسي الإسلامي، وهكذا اكتمل الشكل القانوني العلماني للحزب. بينما يعرف من عاصر بدايات أردوغان أن الجناح الليبرالي في حزبه ما هو إلا قناع؛ حتى لا يتم حل الحزب كما حدث من قبل، والطريف أن الكثير من المهتمين بالشأن التركي حتى يومنا هذا يدافعون عن علمانية الحزب وعلمانية أردوغان؛ على أساس وجود هذا الجناح الليبرالي العلماني في الحزب، بينما -وكما سبق- فإن هذا الجناح ديكور سياسي فحسب، ولا يشارك إلا على هامش أنشطة الحزب والحكومة. هكذا نجح أردوغان في تخطي عقبة علمانية حزبه، وكان ثمة عقبة أخرى لتولي رئاسة الوزارة، ولكنه انحنى للعاصفة، وأسند رئاسة الوزارة مؤقتا إلى عبد الله جول، إلى أن ظفر بمقعد في البرلمان التركي، وقام بتولي رئاسة الوزارة بنفسه. وفي الواقع فإن مسيرة أردوغان السياسية مليئة بالقرارات المترددة، ففي بادئ عصره توجّه فورا إلى الاتحاد الأوروبي والعلاقات الأوروبية التركية محاولا إنجاز دمج تركيا في الاتحاد الأوروبي. ولكن زعماء الاتحاد لديهم تحفّظات كثيرة على هذه الخطوة، كما يوجد سبب اقتصادي خفي في الأمر، يتمثل في أن الأيدي العاملة التركية لو انتشرت في أوروبا فإنها سوف تتسبب في رفع نسب البطالة بدول الاتحاد. ومع ذلك استطاع أردوغان أن يتوصل إلى اتفاقيات أولية، واستُقبل في أنقرة استقبالا أسطوريا، ولُقّب ب"فاتح الاتحاد الأوروبي". وإلى جانب توجّه أردوغان إلى الغرب الأوروبي فإنه سعى إلى المشرق العربي، عبر حضوره القمم العربية بشكل دائم، وطرحه أكثر من مرة فكرة انضمام تركيا إلى جامعة الدول العربية، ولكن هذا لم يكفِ طموحات أردوغان، لذا تخطّى خطا أحمر صنعه الجيش التركي للوزارات التركية بعدم انتقاد إسرائيل. وهكذا خرج أردوغان في أكثر من موقف، منددا بالأفعال الإسرائيلية، ولكن نجمه الحقيقي في هذا المجال بزغ إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الفلسطيني، ما بين عامي 2008 و 2009، حيث كان لتصريحاته القوية عبر قناة الجزيرة القطرية فعل السحر في نفس رجل الشارع العربي. وفي واشنطن حدث انقسام خفي حيال مواقف أردوغان الجديدة، فهناك جناح في إدارة باراك أوباما يرى أن العلاقات مع تركيا لم تعد موثوقا فيها، وهو ما كشفه التسريب الأخير للوثائق الأمريكية. بينما هناك جناح آخر يرى أن شعبية أردوغان فرصة ذهبية لضرب شعبية إيران في الشرق الأوسط؛ لأن تركيا مهما ذهبت فإنها لن تشكل خطرا عسكريا على إسرائيل أو المصالح الأمريكية في المنطقة، وحتى لو فكّر أردوغان -وهو أمر مستبعد- في خوض أي مغامرة عسكرية مع إسرائيل فإن جنرالات جيشه لن يوافقوه، بل وربما يحدث انقلاب عسكري ينهي مسيرة أردوغان. هذا الجناح الأمريكي يحظى بتأييد حكومات عربية كثيرة، ترحّب بشكل شبه يومي بالدور التركي والمشروع التركي، خاصة أن أردوغان يفهم جيدا أنه بحاجة إلى شركاء من العالم العربي على الأقل في المرحلة الأولى. التوجّه التركي الأخير يحظى أيضا بدعم فرنسي كامل، خاصة أن الرئيس نيكولا ساركوزي يبحث عن حلفاء في المشرق؛ لدعم سياسة بلاده في الشرق الأوسط، ولا ننسَ القمة الفرنسية الشرق أوسطية التي عقدت عام 2008 في سوريا بحضور ساركوزي وأردوغان والرئيس بشار الأسد وأمير قطر حمد بن خليفة آل ثانٍ. وبالفعل فإن زيارة أردوغان الأخيرة إلى لبنان، عقب بضعة أسابيع من زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد تعتبر بداية فعلية لحرب باردة بين أنقرة وطهران. وداخلياً حقّقت تركيا طفرة اقتصادية مذهلة، إلى درجة أن الجار اليوناني اللدود طلب مساعدة الأتراك فور انهيار الاقتصاد اليوناني، كما صوّت الشعب التركي على أكبر تعديلات دستورية في تاريخ تركيا، مما فتح الباب أمام قيام أردوغان بسنّ دستور جديد من المتوقّع أن يكشف عنه الستار خلال الأشهر المقبلة. وفوق كل هذا توجّه أردوغان إلى آسيا الوسطى، حيث بدأ في عقد قمم لما يسمى "الدول الناطقة باللغة التركية"، أي بشكل أو بآخر إحياء القومية التركية في آسيا الوسطى، ويضم هذا التجمع الإقليمي الجديد أذربيجان وقيرقيزستان وكازاخستان وتركمانستان، بالإضافة إلى تركيا، ومعظم تلك الدول سيطرت عليها تركيا العثمانية بشكل أو بآخر. وختاما فإن مسيرة رجب طيب أردوغان لا تجعله في مصافّ عظماء الدولة التركية فحسب، ولكنها تضعه جنبا إلى جنب في مرتبة واحدة مع الأب المؤسس للجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، ولو نجح أردوغان في تمرير الدستور الجديد، وفي الانتخابات التركية في العام المقبل، فإنه سوف يصبح وبحقّ مؤسس تركيا الحديثة.