الإخوان بين يدَى حسن البنا كانوا كالميت بين يدَى مَن يغسِّله البنا بدأ دعوته بين الحِرفيين وصغار التجار الأميين من رواد المقاهى ماذا قدم البنا للإنجليز والفرنسيين مقابل تبرعهم ب500 جنيه لبناء مسجد جمعية الإخوان؟ فى أحد مساجد الخرطوم بالسودان فى الأيام الأولى من شهر أبريل عام 2013 جلس الرئيس المصرى محمد مرسى مع رئيس نِصف السودان عمر البشير يقرآن القرآن، نعم نِصف السودان فقد أصبحت السودان دولتين فى ظل حكم الإخوان لها، كانت بعض الروائح قد تصاعدت تؤكد أن السودان قد يتفرع منها دولة ثالثة، وكان قارئ القرآن بالمسجد قد أكد لعمر البشير أن مصر ستمنح السودان منطقة «حلايب وشلاتين» لا تثريب على مرسى حينما قرر منح البشير هذه العطية، فهما أخان فى تنظيم واحد يجتمعان معًا فيه، والتنظيم الأم لهما هو «التنظيم الدولى لجماعة الإخوان» وتحت راية القرآن من الممكن أن يفعل الساسة ما يريدون، وبالقرآن يستطيع بعضهم خديعة الأمم، وقد كانت جماعة الإخوان أكبر خديعة تعرض لها الشعب المصرى عبر تاريخه، ولكن الخديعة لا تدوم.
نعم قد يخدعك بعض الناس بعض الوقت، ولكن ليس فى إمكان أحد أن يخدعك كل الوقت، وحين ظهرت جماعة الإخوان على ظهر الأرض ظن الناس أنهم من أهل الله وخاصته، فالمظهر قد يُخفى حقيقة الجوهر، وكلنا ننظر فى الوهلة الأولى إلى الشعارات دون أن نبحث عن المحتوى، فنظن أن فئة من الفئات أو طائفة من الطوائف هم من أولياء الله وهم يخفون فى نفوسهم أمرا ويظهرون أمرا آخر كأنه قبة عالية مزخرفة بالنقوش، فنقول كما قال أجدادنا «تحت القبة شيخ» وما هو بشيخ ولكن مسخ مشوه، نظرتنا السطحية هذه قد تقودنا إلى التهلكة إن لم نكتشف الخداع مبكرا، أمعِن النظر فى الأقوال، ثم راقِب الأفعال، ولا تبحث عن مبرر إذا زاد انفلات الأفعال عن الحد وبلغ السيل الزُّبَى، واعلم أنه «ليس كل من ركب الحصان خيَّال» وليس كل من أطلق لحيته وقرأ القرآن ورفع الأذان وصلَّى أمام الناس، مؤمنا حقًّا، ولنا فى رسولنا (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة، فقد علَّمنا أن العبادة الفارغة من مضمونها مردودة على صاحبها فقال «مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه» ولعل أبو يزيد البسطامى هو الذى قال: لو رأيتم الرجل يطير فى الهواء أو يسير على الماء فلا تركنوا له حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهى، وتجنبه الحرام، والكذب أعلى الحرام.
فما قصة الإخوان، وما موضعهم من الحكاية التى أوردتها؟ تبدأ قصة الإخوان مع حسن البنا الذى وُلد عام 1906 فى قرية المحمودية التابعة لمديرية البحيرة القريبة من مديرية الإسكندرية، وكان أبوه يعمل فى تصليح الساعات بعد أن وفد إلى مصر من بلده الأصلى «المغرب»، وعبر تاريخى كله قرأت، وأزعم أننى فعلت، كل ما أخرجته المطابع عن حسن البنا، ولكنها كانت قراءة بعين واحدة، وقراءة العين الواحدة لا تبصر الحقيقة إذ هى قراءة متحيزة، تحذف وقت الاستقبال ما تريد، وتثبت فى القلب ما تريد، لا تثبته فقط ولكن الحب يثبته ويضخّمه، وقد أحببت هذا الرجل وشُغفت به، وفَتَّتَتْ كبدى نهايته المأساوية، إلا أننى بعد سنوات من القراءة والبحث كنت أمج مغالاة الغالين، ولا أنزّه نفسى عن أننى كنت فى الفترات الأولى من حياتى قد وضعت الرجل فى مكانة أولياء الله الصالحين الصدّيقين الذين لم يقترب الخطأ من حياضهم أبدا، بهرنى بذاكرته وفراسته وهمته العالية، حتى قلت فى نفسى إن هذا رجل لم يقع فى هفوة قط وكأنه أرقى من الصحابة أجمعين، ولعل الحب ومراتب الهوى هى التى جعلتنى من المشدودين للبنا والمشدوهين به،إلا أننى بعد أن استقام عودى أدركت أن الإنصاف للرجل إنما يكون بتأديمه، أىْ «رده إلى آدميته» فقد خلقنا الله من طين لذلك لا ينبغى أن نحوِّل أنفسنا أو نحوِّل مَن نحبهم إلى ملائكة نورانيين، وتنزيه البشر إنما يكون بتعديد معايبهم وإبعادهم عن الكمال لأن الإقرار بنقائصنا هو فى ذاته الإقرار بكمال الله.
انضم حسن البنا فى بداية شبابه إلى إحدى الطرق الصوفية، هى الطريقة الحصافية، وظل منتسبا إلى هذه الطريقة طوال حياته، ومن هذه الطريقة أخذ نقطة الانطلاق، حيث تعلم من شيخها، وأخذ من شيوخها حلمى زكريا وحسن خزبك وغيرهما، ومنهم عرف السمع والطاعة والثقة فى الشيخ، وأدرك أن وسيلته فى إقامة تنظيم قوى مُحكَم يدين له بالولاء لا تكون إلا بطاعة الأعضاء كما يطيع المريد شيخه، ففى الصوفية يكون المريد بين يدى شيخه كالميت بين يدى مَن يغسّله يقلّبه كيف يشاء، وهكذا أصبح البنا فى مقتبل أيامه وهكذا أصبح الإخوان بين يدى البنا.
استمر البنا فى الطريقة الحصافية لم يغادرها بروحه أبدا، وإن كان قبلها قد انقطع عن استكمال حفظ القرآن، إذ توقف عن هذا وهو فى الرابعة عشرة من عمره رغم أنه كان يتمتع بذاكرة لاقطة قوية، وكان من أثر ذلك أن فشل البنا فى الالتحاق بالأزهر الشريف، فقد كانت شروط الالتحاق توجب حفظ القرآن كاملا، وهو لم يكن كذلك، فالتحق بمدرسة دار العلوم المتوسطة التى كانت تشترط أيضا ذات الشرط، ولكن حسن البنا قال فى مذكراته إنه وجد واسطة توسطت لدى مدير المدرسة فتم قبوله بها على وعد أن يحفظ القرآن كله بعد ذلك.
وتخرج الشاب حسن البنا فى مدرسة دار العلوم المتوسطة بتفوق، ولسبب ما لا نعرفه ولم يكتب أحد عنه ولم يَرِد فى مذكرات البنا لم يستطع استكمال تعليمه فى مدرسة دار العلوم العليا، فعمل مدرسا للخط العربى فى مدرسة ابتدائية بمدينة الإسماعيلية، وكان اختيار حسن البنا لهذه المدينة غريبا، وكان الأغرب أن أحدا من الباحثين لم يبحث عن سبب هذا الاختيار! إذ كان من المتبع وقتها أن الطالب الذى يتخرج بتفوق يكون صاحب الحق فى اختيار المحافظة التى يعمل فى مدارسها، وكان من المألوف أن يختار هذا المتخرج مدرسة فى المدينة التى يسكن فيها، فالاغتراب يباعد بينه وأهله، كما كان يقتطع من راتبه ولا يوفر له حياة كريمة، خصوصا أن حسن البنا وفقا للرسائل التى كان يرسلها إلى أبيه وهو فى الإسماعيلية والتى جمعها شقيقه جمال البنا فى كتاب كان يشتكى من الفاقة، لا شك أن هذا الاختيار يضعنا أمام علامات استفهام محيرة!
وبدأ البنا فى الإسماعيلية عام 1928 بناء جماعته، جماعة الإخوان، كان حسن البنا يحمل ذكاءً فطريا يعرف أن المصرى متدين بطبيعته يرتجف قلبه عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب آل البيت حبًّا جمًّا، فلم يتجه البنا إلى الذين يذهبون إلى المساجد، وإنما ذهب أول ما ذهب إلى من لا يذهبون إلى المساجد، وفى المقاهى كانت غزوته الدعوية الأولى «غزوة المقاهى» فقد فوجئ البسطاء من الحرفيين وصغار التجار الأميين من رواد المقاهى البلدية برجل من الأفندية يرتدى ملابس إفرنجية يقف متكئًا على أحد المقاعد يخطب فيهم خطابا دينيا بسيطا، واستمر على ذلك أياما حتى اشتهر أمره بين الناس وتحدثوا عن «خوجة» الخط العربى الذى يعظهم فى المقاهى، ومن المقاهى إلى المساجد الصغيرة كان رواحه وغدوّه، وبعد أيام معدودات نجح البنا فى أن يجمع حوله عددا من رجال الإسماعيلية من أصحاب الحرف البسيطة، ظل يتزاور معهم ويبثهم خواطره الإيمانية فترة، ثم آن الأوان لتكون البذرة الأولى للجماعة.
كان الاقتراح اقتراحه وكانت الفكرة فكرته: علينا أيها الإخوة أن نُنشئ جمعية لنا؟ فلتكن جمعية الإخوان المسلمين، واستقبل الجمع الذى معه اقتراحه باستحسان، فهو قائدهم وهم رجاله، فكان عام 1928 هو عام التأسيس الرسمى لجمعية الإخوان المسلمين، كان كل غرضها الظاهر هو الدعوة لله، وكان الداعية هو الشاب حسن البنا، وحين بدأ البنا فى إنشاء مسجد بالمدينة يعلوه مقر للجماعة قال فى مذكراته «قبل أن يتم بناء المسجد بقليل وقد أوشكت النقود المجموعة على أن تنفد، وأمامنا بعد مشروع المسجد مشروع المدرسة والدار وهى من تمامه بل كلها مشروع واحد، تصادف أن مر البارون دى بنوا مدير شركة القنال ومعه سكرتيره المسيو بلوم فرأى البناء فسأل عنه وأخذ عنه معلومات موجزة، وبينما أنا فى المدرسة إذ جاءنى أحد الموظفين يدعونى لمقابلة البارون بمكتبه بالشركة فذهبت إليه فتحدث إلىّ عن طريق مترجم بأنه رأى البناء وهو يود أن يساعدنا بتبرع مالى وهو لهذا يطلب منا رسما ومذكرة للمشروع، فشكرت له ذلك وانصرفت ووافيته بعد ذلك بما طلب ومضت على ذلك شهور كدنا ننسى فيها البارون ووعده ولكنى فوجئت بعد ذلك بدعوة ثانية منه إلى مكتبه،
فذهبت إليه فرحّب بى ثم ذكر لى أن الشركة اعتمدت مبلغ خمسمئة جنيه مصرى للمشروع، فشكرتُ له ذلك، وأفهمته أن هذا المبلغ قليل جدا ولم يكن منتظرا من الشركة تقديره لأنها فى الوقت الذى تبنى فيه على نفقتها كنيسة نموذجية تكلفها 500000 خسمئة ألف جنيه أى نصف مليون جنيه تعطى المسجد خمسمئة فقط، فاقتنع بوجهة نظرى وأظهر مشاركتى فيها ولكنه أسف لأن هذا هو القرار، ورجانى قبول المبلغ على أنه إذا استطاع أن يفعل بعد ذلك شيئا فلن يتأخر. وشكرت له مرة ثانية وقلت إن تسلم المبلغ ليس من اختصاصى ولكنه من اختصاص أمين الصندوق الشيخ محمد حسين الزملوط الذى تبرع وحده بمثل ما تبرعت به الشركة وسأخبره ليحضر لتسلمه، وقد كان. وتسلم أمين الصندوق المبلغ».
والذى يلفت النظر فى هذه الفقرة التى رواها لنا حسن البنا، أن مبلغ التبرع كان قدره خمسمئة جنيه مصرى، أى ما قيمته وقتها خمسمئة وعشرين جنيها من الذهب، لا شك أنه يمثل مبلغا ضخما وفقا لمعايير زمننا، فى الوقت ذاته فإن ما ذكره البنا عن قيمة تبرع الشركة لبناء كنيسة هو من الأمور التى بثها فى مذكراته حتى يُسيغ لنفسه أمام الناس فى الحال والاستقبال قبوله هذا التبرع من محتل وضع يده على البلاد قهرا، إلا أنه وقع فى مبالغة ممجوجة حينما ذكر أن الشركة تبرعت لكنيسة بنصف مليون جنيه، وهو مبلغ تُبنى به وقتها مدن كاملة، ويبدو أنه عقد هذه المقارنة ليهوّن بها من قيمة المبلغ الذى تلقاه وقِلة أثره، حتى إنه ذكر أن أحد المتبرعين تبرع للمسجد بخمسمئة جنيه أيضا، وكأن هذا المبلغ كان متوافرا لدى عموم الناس يدفعونه لأنه من فضل أموالهم! إذن ما الذى دعاه إلى ذكر قصة هذا التبرع «المشبوه»؟ لم يذكر البنا هذه القصة إلا لأنها كانت حديث الساعة فى مدينة الإسماعيلية، تحدث بها كل الناس، وحدث بين الإخوان بسببها شقاق أدى إلى انشقاق بعض الإخوة الذين انضموا إلى الجماعة، فكان على البنا أن يكتبها ما دامت أصبحت معروفة بطريقة تبرّئه، فكانت طريقة سرده تبدو كأنه يدافع عن نفسه.
ولكن السؤال المهم هو: مَن الذى عرض التبرع؟ هل الشركة هى التى عرضته من تلقاء نفسها حبًّا فى فعل الخير؟! أم أن حسن البنا هو الذى طلب ذلك وقدَّم من أجل هذا رسما هندسيا شفعه بالطلب؟
الإجابة نلجأ فيها إلى المنطق والاستقراء، فإذا كانت الشركة هى التى بادرت بالتبرع دون أن يقدم لها البنا طلبا بذلك لكان عليه وفقا للخلق القويم أن يقبل التبرع دون أن يعاتب المتبرع بقلة التبرع، ودون أن يعايره بأنه تبرع فى موضع آخر بمبلغ أكبر، هذا أمر لا يحدث أبدا فى هذا الظرف الإنسانى، ولكن المساومة التى حدثت لا تكون إلا عندما يكون هناك عرض يتدارسه طرفان، يقول أحدهما للأول سأدفع لك مبلغا قيمته كذا، فيقول الثانى للأول هذا مبلغ بخس لا يكفى للمطلوب الذى سأقدمه لك، وتنتهى المساومة بوعدٍ بدفع مبلغ آخر فى المستقبل، وقبولٍ من المساوم للمبلغ، إلا أنه لكى يوضح أنه غير راضٍ عن القيمة قال للمتبرع إنه سيرسل إليه المختص كى يستلم المبلغ! وقد حدث!! مع أن البنا كرئيس للجمعية، وكشخصية عُرف عنها أنها شخصية مركزية، ظل عمره فى إدارته للجماعة يجمع كل الخيوط فى يده، لذلك كان فى إمكانه ومن حقه أن يستلم المبلغ بنفسه، خصوصا أن الجمعية وقتها لم يكن لها لائحة تضبط ما يتعلق بالاختصاصات.
تثير هذه القصة فروضا كثيرة متشابكة إذ إن البنا حين كتبها لم يقم بصياغتها بشكل منطقى، ولكنك لركاكة العرض تشعر أنك أمام تلفيق فى تلفيق، ومن التلفيق الواضح هذه الفقرة الأخيرة من قصة هذا التبرع، تعوَّد البنا فى حياته أن يقذف حجرا واحدا ليجنى به أكثر من ثمرة، لذلك فإن رفضه تسلم المبلغ بنفسه يأتى فى سياق إظهار الغضب من قلة قيمة التبرع، إلا أنه أيضا كان حريصا على أن يكون خبر هذا التبرع فى أقل عدد ممكن من جماعته حتى لا يحاججه به أحد، فالمفروض أن المسجد قد انتهى تشييده، وقد يظهر فى المستقبل أحد السياسيين ويتهم البنا بتلقى تمويل من الإنجليز والفرنسيين، ويُظهر من أجل ذلك إيصال تسلمه للمبلغ، لذلك يجب أن يوقِّع شخص آخر غيره على إيصال التسلم، ولكن الله أراد أن تشيع قصة التبرع عند الإخوان وغيرهم، لذلك بحث البنا عن طريقة يبرّر فيها سبب هذا التبرع وقلة قيمته وعدم جدواه، وأنه كان من تلقاء الشركة لا بناء على طلب منه، وكان من أجل الخير وبناء مساجد للعبادة، وقتها من الممكن أن نستسيغ القصة.
ولنا أن نسأل أنفسنا: هل الشركات التابعة للاستعمار الباغى تبادر إلى التبرع لأشخاص فى الدولة المستَعمَرة لفعل الخير؟! التاريخ المصرى يجيب علينا قائلا: «لم يسبق لشركة قناة السويس التى كانت تابعة للإدارة الأجنبية أن تبرعت فى الإسماعيلية أو غيرها لأى عمل من أعمال الخير، وإنما كانت هذه الجهات تقوم بالاتصال بالعملاء وتكليفهم بمهام، وسداد مكافآتهم وفقا للمهام المسندة إليهم» وقد تعيدنا هذه الإجابة إلى السؤال الأول الذى طرحناه وهو: لماذا اختار البنا مدينة الإسماعيلية ليعمل فى مدرستها الابتدائية بدلا من أن يعمل فى مدرسة المحمودية التى هى بلده؟! أظن الإجابة واضحة، ولعلنا نتوسع ونقول إن عدم استكمال البنا تعليمه فى المدرسة العليا رغم تفوقه قد يكون فى الغالب الأعم لهذا السبب، وكأن هناك من كان كامنا فى مكان لا نراه ولم يسجله التاريخ قال للشاب الصغير حسن البنا: كفى تعليما فقد بدأ وقت الجد، هذا وقت عملك المرسوم لك!
ولسنوات قليلة ظلت الجمعية فى حضن مدينة الإسماعيلية إلى أن قيض الله للبنا أمرا وتم نقله إلى القاهرة فانتقلت الجماعة معه وإن ترك فى الإسماعيلية إخوانه الذين بدأ معهم، تركهم وهم يشتجرون فى ما بينهم أيهم يكفل الجماعة ويكون مسؤولا عنها فى تلك المدينة الصغيرة.
وفى القاهرة كانت أيام حسن البنا وجماعته فى مرحلتها الثانية،كان كل همه هو أن يُنشئ شُعَبا لجماعته فى كل أنحاء البلاد، وتفرعت الجماعة وتشعبت حتى تشبعت بها الأقاليم، وبطريقته الدمثة الحماسية نجح البنا فى أن يضم إلى جماعته أقطابا من العلماء، ثم سافر إلى الحج. ويحكى رفاق البنا فى هذه الرحلة أنه التقى فيها الملك السعودى ملك المملكة الناشئة، ومن بعد هذا اللقاء أصبح شعار الجماعة هو «المصحف والسيفين» وشعارها الآخر هو «الله أكبر ولله الحمد » وكأن البنا عهد على نفسه أن ينتقل إلى كل الأشجار ليقطف من كل شجرة ثمرة.
وشيئا فشيئا اتجهت بوصلة البنا الدعوية إلى طريق آخر، فمع مؤتمرات الإخوان ورسائل البنا كانت السياسة، وكانت شمولية الجماعة، فمع اختلاط مفهوم الجماعة عند البنا مع مفهوم الدعوة والإسلام والدعوة كان ولا بد أن يتجه البنا بجماعته ناحية الشمول فالإسلام الشامل لا يقيمه فى ظنه إلا جماعة واحدة على شرط أن تكون هى الأخرى شاملة، مع أن الإسلام ليس هو الجماعة!
ولأن للسياسة طرقها ووسائلها، فقد حاول البنا أن يقترب من الملك فؤاد، وحين مات نعاه البنا، وكتب فى صحيفته يمهد الطريق للملك الجديد عبارة كررها التاريخ كثيرا هى : «مات الملك عاش الملك» ثم قام هو وجماعته بتنظيم استقبال حافل للملك الجديد فاروق، هتفوا بحياة المليك الجديد، وبايعوه، وكتبوا فى مجلتهم عن المجد الذى ينتظر الإسلام من خلاله، واستمرت علاقة البنا بالملك طيبة فترة ثم سرعان ما تعكر الماء بينهما ثم دخل «الوفد» فى دائرة الخلاف، وراهن البنا حينًا من الدهر على رئيس الوزراء إسماعيل صدقى الملقب «عدو الشعب» فناصره ووقف معه ضد رغبة الشعب كله، وسرعان ما أصبحت كل الأحزاب فى خلافات مع البنا وجماعته فأصبح يمج الحزبية ويكره الأحزاب فلا حزب عنده إلا جماعته التى من شأنها أن تقيم شرع الله وتعود لنا بدولة الخلافة ولا حزبية إلا للإسلام.
يقول البعض إن الخطأ الأكبر للبنا هو أنه دخل فى أتون السياسة، أما أنا فأقول إن الخطأ الأكبر له هو أنه أنشأ الجماعة أصلا، وكان اغتيال النقراشى باشا رئيس وزراء مصر هو الرصاصة التى انطلقت فى ما بعد إلى قلب حسن البنا فأودت به.
اقرأ فى الحلقة القادمة «الثلاثاء»..لماذا قرر البنا أن يعمل فى الإسماعيلية التى كانت مقرًّا لشركة قناة السويس؟