علي كثرة الكوارث والخرائب المادية والعقلية والروحية والأخلاقية التي أشاعها نظام الحكم الحالي في ربوع الوطن مجتمعاً ودولة، فإن ثقافة أو عقيدة «الخرابة الاستثمارية» تتمتع بين أدوات اللصوصية والتخريب بوضع خاص ومكانة مركزية متميزة جدا لاسيما بعد أن أنزلها مروجوها منزلة «الديانة» المقدسة بهدف الإرهاب ومن ثم مضاعفة قدرتها وطاقتها التدميرية. ومن عجب الدنيا أن هذه العقيدة استفحلت بالإلحاح الإرهابي علي مدي عقود وسنين طويلة رغم أن انحطاطها وفسادها ظاهر ومفضوح ولا يحتاج المرء لإدراكه إلا أن يكون متوفراً فقط علي قدر بسيط من النزاهة والبصيرة السليمة، ويكفي هنا أن تقارن حضرتك بين حالنا قبل اختراع الديانة المذكورة وحالنا بعدها لتكتشف أننا منذ عرفناها خسرنا بالنهب والتخريب صروحاً إنتاجية وثروات ومقدرات بنيناها بالعرق والدم، ولم نحصد في المقابل غير قطعان سمينة من اللصوص العتاة القساة المتسربلين بلقب «مستثمر»، ذلك اللقب الذي أضحي يشير إلي نموذج إجرامي نادر بدأ رحلة تفشيه في المجتمع من أوساط التجار والسماسرة المتمتعين بسمات النشالين، لكنه تعمم بعد ذلك واستقطب أصحاب أعمال ومهن أخري عديدة حتي اعتدنا علي منظر «الطبيب المستثمر» في أرواح البشر والقري السياحية وبيع الأجهزة الكهربائية وخلافه، والمحامي الذي يستثمر في الرشوة والنصب وتخريب الذمم، والصحفي (أو المذيع ) المستثمر في بيع ونشر الجهل والنفاق، وكذلك نموذج النائب الموقر الذي يستثمر حصانته المزورة في ارتكاب كل أنواع الموبقات والممنوعات، وأيضا السياسي صاحب «صحيفة السوابق» الإستثمارية المتخمة بفضائح بيع الأوطان والتفريط في حقوق ومصالح العباد والبلاد.. إلخ. باختصار، لقد تعمم وتوحش نموذج «المستثمراني» الذي يكاد كرشه الواسع ينفجر بالسحت والثروة الحرام وصارت مفردة «الاستثمار» واشتقاقاتها وكأنها مرادف للجرائم والمصائب والكوارث. أما الكوارث الوطنية فمن أقواها وأحدثها (وليس آخرها) المصير الأسود الذي بات ينتظر مشروع المحطة النووية اليتيمة المجمد من ربع قرن، إذ تابعنا جميعا ما جري بعدما تجدد الحديث عنه (قبل عامين) ورأينا كيف تهيجت غريزة النهب عند غيلان الاستثمار وأخذوا يتلمظون علناً لسرقة الأرض المخصصة لهذا المشروع من عشرات السنين في منطقة الضبعة، وقد نجح هؤلاء «المستثمرانية» المتوحشون حتي الآن في إبقاء أمر بناء هذه المحطة حبيس الكلام الفارغ وجدلاً عبثياً مشبوهاً يدور حول سؤال : هل نضحي بفرائض وواجبات «الديانة الاستثمارية» مقابل طاقة نووية زائلة ؟! هذا السؤال العبقري اقتحم فجأة دائرة اهتمامات الزميل الأستاذ مجدي الجلاد رئيس تحرير صحيفة «المصري اليوم» ، ما جعله يتحفنا بمقالين عميقين لعل من أبرز وألطف ما احتوت عليه سطورهما، أن الزميل أعاد صياغة السؤال آنف الذكر علي النحو التالي نصاً: «ما أفضل استثمار لأرض (الضبعة) بعيداً عن صراع الخبراء ورجال الأعمال؟». ولدواعي الإنصاف أعترف بأن علامة التعجب الأخيرة موجودة أصلاً في النص وليست من عند العبد لله، وهو ما يجعلني أظن أن الزميل مجدي نفسه ربما لديه إحساس دفين بأنه من العجيب حقاً وضع «الخبراء» الذين ينبغي أن يكون لهم القول الفصل في هذا الموضوع الخطير، علي قدم المساواة مع «رجال أعمال» سوداء لابد أن يكون السجن هو مكانهم الطبيعي(!!) فالحال أن صياغة علي هذه الشاكلة التي تجعل الخبرة والتخصص مساوية ومكافئة للنهم الاستغلالي والنزوع للنشل، تشبه تماماً أن يتساءل المرأ بمنتهي البراءة : هل ياتري ننفذ تعليمات الطبيب ونعطي المريض العلاج الذي وصفه له، أم نتركه يموت بعلله نزولاً علي رغبة الورثة الجشعين معدومي الضمير ؟! غير أنه لا أظرف ولا ألطف من هذا السؤال إلا الإجابة التي أبدعها الزميل مجدي وتطوع بها خدمة للوطن والاستثمار معاً.. بيد أن المساحة تآكلت للأسف وقد أعود لهذا الموضوع الممتع في وقت لاحق.