أقضي أجازتي في بلدة بعيدة يربطها بالعالم قطار يمر بها مرتين أسبوعيًا وطريق بمحاذاة الجبل، بلدة من النادر أن تطأها قدم غريبة زرتها بتوصية من ابنة البلدة صديقتي مليحة التي تعيش في القاهرة منذ سنوات. بلدة تعيش علي إنتاج الطبيعة وعلي ما يصنعه أهاليها، في كل بيت غرفة مليئة ببرطمانات الأجبان والمخللات والمربي والباذنجان المحشو بالصنوبر يرقد في زيت الزيتون إلي جوار أجولة الحبوب والغلال والدقيق والأعشاب والخضراوات والفواكه المجففة.. غرف ما إن تستنشق رائحتها مرة واحدة حتي تحفظها وستشعر بها بلا مقدمات تهب علي القلب من الجهات الأربع وكأنها رائحة مطبخ الجنة، بلدة أهلها يجتمعون أسبوعيًا علي وليمة اللحم المطبوخ بالبصل وحلوي العجين بالزبد والعسل، وفيما عدا ذلك هم نباتيون تقريبًا، يسهر الرجال أمام البيوت كل ليلة ينهلون من بحر حكايات الكبار المليئة بالأساطير والحكمة وخلاصة العمر والمعرفة التي يقدمونها دون توقف للأجيال الجديدة، وتسهر النساء علي سطوح المنازل يحكين سيرة من رحلوا أو ماتوا وينقلن للبنات الجديدة تاريخ البلدة شفهيًا بكل ما في هذا التاريخ من أخلاق وأصول هي ثروة البلدة الحقيقية. أصحو من النوم علي صوت فيروز يملأ أركان بيت مليحة، أداعب جدتها التي تحمل الاسم نفسه قائلاً: (مافيش أم كلثوم؟) فترد بقاعدة سأتبعها إلي نهاية عمري (فيروز للصبح والست لليل)، أستقبل النهار فوق السطوح بالقهوة المغلية والبسكويت بالمربي مستسلمًا للمساحات الخضراء الواسعة بتدرج الأخضر فيها مراقبًا أسراب الطيور التي لا أعرف اسمها (أطلقت عليها اسم طيور المليحة)، تداعبني الجدة قائلة: لماذا لا تتزوج مليحة وتعيش معنا هنا؟، سألتها (وهاشتغل إيه؟)، قالت لي إنني أستطيع أن أعمل مدرسًا في مدرسة البلدة وضربت لي مثلاً ب (أليس) الفتاة الأمريكية التي جاءت إلي البلدة منذ سنوات مع سهيل ابن خالة مليحة الذي كان يدرس في أمريكا وكانا قد تزوجا هناك وبعد عودتهما بسنة توفي سهيل ورفضت هي أن تعود إلي بلادها واستقرت في البلدة كمدرسة للغة الإنجليزية نهارًا وكممرضة ليلاً، ثم سألتني الجدة (تعرف تضرب حقن؟) كان العرض مغريًا خاصة بعد أن رأيت مليحة وهي تقف في مطبخ البيت الواسع تصنع عجينة بلح الشام. تمر الأيام هنا وأنا أفكر في عرض الجدة مليحة، أقول لنفسي إن البشر يموتون قبل أن يعيشوا حياة واحدة حقيقية، ربما لأنهم جبناء بطبعهم يخشون المغامرة وربما لأنهم لا يعرفون أن الحياة فرصة لا تتكرر كثيرًا فيظلون هاربين من أن يعيشوها بقوة، وأنا الآن بصدد قبول عرض لأن أعيش الحياة للمرة الثانية بعد أن استنفدت حياتي الأولي في القاهرة معظم أغراضها ولم يعد يربطني بها سوي الجنسية، أراقب طيور المليحة وأسأل نفسي إن كان لها وطن تعرفه وتعود إليه؟!.. قطع تفكيري نداء الجد الذي طلب مني أن أصاحبه في زيارة مقابر العائلة لمتابعة العمال الذين يبنون سورًا جديدًا حول المدافن، قلت له مداعبًا (سور جديد؟ ليه هما الميتين بيزوغوا؟) لم تنل المداعبة إعجابه لكنه قال لي بعد أن قرأنا الفاتحة علي أرواح الموتي (هنا يرقد بسلام كل الذين أحبهم وإلي جوارهم بعض الغرباء الذين أصبحوا أبناء لهذه البلدة)، لم أفهم ماذا يقصد فنظرت ناحيته في صمت، فقال لي وكأنه يجيب عن سؤال لم أسأله (وطن المرء ليس مكان ولادته ولكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب). ( من كتاب جر ناعم 2008).