ليست مصادفة اختفاء رأس عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين من تمثاله المقام بكورنيش النيل بالمنيا يوم مظاهرات «جمعة لا للعنف» التي دعت لها الجماعة الإسلامية، فما الذي في رأس طه حسين يمكن ألا يعجب ويغضب المتأسلمين والمتأسلفين هذه الأيام الرديئة؟ أيكون مثلاً ما قاله: "المسلمون قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو: أن السياسة شئ والدين شئ آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شئ آخر.
وهذا التصور هو الذي تقوم عليه الحياة الحديثة في أوربا. فقد تخففت أوربا من أعباء القرون الوسطى، وأقامت سياستها على المنافع الزمانية، لا على الوحدة المسيحية، ولا على تقارب اللغات والأجناس".
"إن الأمر قد انتهى (بالحضارة الأوروبية الحديثة) إلى شئ من التوازن بين الدين والحضارة، ولكن العقل الأوروبي المستقيم قد انتهى إلى أن الخصومة العنيفة الآثمة لم تكن بين الدين والحضارة في حقيقة الأمر وإنما كانت بين الذين يمثلون الدين والحضارة.
كانت بين الأهواء والشهوات لا بين الدين الذي يغذو القلوب والشعور والحضارة التي تنتجها العقول. ولعل مصدر هذه الخصومة العنيفة بين الدين والعقل في أوربا أو بين رجال الدين ورجال العقل، أن رجال الدين المسيحي لهم نظمهم وقوانينهم وسلطانهم القوي الذي كونته لهم العصور المتصلة والظروف المختلفة، فلم يكن لهم بد من أن يذودوا عن هذا السلطان ويحافظوا على ما كان لهم من قوة وبأس.
فأما نحن فقد عصمنا الله من هذا المحظور ووقانا شروره التي شقيت بها أوربا. فالإسلام لا يعرف الأكليروس ولا يميز طبقة رجال الدين من سائر الطبقات. والإسلام قد ارتفع عن أن يجعل واسطة بين العبد وربه. فهذه السيئات التي جنتها أوربا من دفاع رجال الدين عن سلطانهم لم نجنيها نحن إلا إذا أدخلنا على الإسلام ما ليس فيه وحملناه ما لا يحتمل". "من المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضي منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين، ووحدة اللغة، لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية ولا قواما لتكوين الدول. فالمسلمون أنفسهم منذ عهد بعيد قد عدلوا عن اتخاذ الوحدة الدينية واللغوية أساسا للملك وقواما للدولة. وليس المهم أن يكون هذا حسناً أو قبيحاً. وإنما المهم أن يكون حقيقة واقعة. وما أظن أحداً يجادل في أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية، وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضاً، قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة، حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق. وقد مضى المسلمون بعد ذلك في إقامة سياستهم على المنافع، وعلى المنافع وحدها، إلى أبعد حد ممكن. فلم يأت القرن الرابع للهجرة حتى قام العالم الإسلامي مقام الدولة الإسلامية، وحتى ظهرت القوميات، وانتشرت في البلاد الإسلامية كلها دول كثيرة، يقوم بعضها على المنافع الاقتصادية والوحدات الجغرافية، ويقوم بعضها الآخر على ألوان أخرى من المنافع، تختلف قوة وضعفا باختلاف الأقاليم والشعوب، وحظ هذه الأقاليم والشعوب من قوة الشخصية والقدرة على الثبات والمقاومة".
"لحرية الرأي شرها أحياناً ولكن لها خيرها دائماً، ونفع الحرية أكثر من ضرها على كل حال. وما شك في أن كثيراً من الآثام الفردية والاجتماعية سيزول أو تخف أضراره إذا أتيح للأدباء أن يتناولوه بالنقد والتحليل وبالعرض والتصوير. وما أشك في أن قوانيننا حين تتشدد في مصادرة ما تصادر من حرية الأدب لا تحمي الفضيلة وإنما تحمي الرذيلة وتخلى بينها وبين النفوس .
يجب أن يحرر الأدب والأدباء، وأن يتاح لهم القول في كل ما يشعرون به ويجدون الحاجة إلى القول فيه، ويجب أن تكون قوانينا سمحة وأن يكون تطبيقها سمحاً، وأن يكون ذوق الجمهور عندنا سمحاً كذلك".
"إن من الإسراف أن تفرضوا النظام على كل شئ. فدعوا الأدب حراً طليقاً، كما أراد الله له أن يكون. ليكتب من شاء ما يشاء. ولينتقد من شاء ما يشاء كما يشاء، فلا حياة للأدب إلا بهذا. ولندع للطبيعة نفسها الذهاب بما لا خير فيه واستبقاء ما ينفع الناس؛ فقد تكون الطبيعة أقدر من الفن وأقدر من النقاد وأقدر من الجمهور على هذه القضية. وأنا أعلم أنك ستسألني عن الطبيعة ما هي؟ فأجيبك بأنها هي مجموعة من المؤثرات الظاهرة والخفية التي نعرفها والتي لا نعرفها، والتي تعمل سواء أردنا أم لم نرد على تحقيق ما قال الله عز وجل: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
وأخيرا وليس آخراً، أنه كان مع الاختلاط ففي حديثه عن إعداد المعلم للقيام بالتعليم العام يقول متهكماً إن: "هناك لون آخر لا يخلو من فكاهة فقد شعرت وزارة المعارف بأنها محتاجة إلى المعلمات كما هي محتاجة إلي المعلمين، وكان من الطبيعى أن يقبل الفتيات الجامعيات مع زملائهن في المعهد أثناء الدرس على أن تكون لهن دارهن الخاصة التي يأوين إليها بالطبع.
ولكن صاحب المعالي حلمي عيسى باشا (وزير المعارف العمومية منذ أكثر من 70 عام) رأي أن من الخطر على الأخلاق، فيما يظهر، أن يختلف الفتيان والفتيات معاً إلى الدروس في المعهد فأنشأت الوزارة لهن معهداً خاصاً ونسيت الوزارة، أو جهلت، أن هؤلاء الفتيان والفتيات قد اختلفوا معاً إلى الدروس فى الجامعة أربعة أعوام كاملة على الأقل قبل أن يدخلوا المعهد".
لاشك أن رأس طه حسين التي اعتدت تجربة الرأي وتحكيم العقل، واستنكرت التسليم المطلق، ودعت إلى البحث، والتحري، بل إلى الشك والمعارضة، وكل ما فيها من أفكار تنويرية هى المطلوبة - وليس رأس تمثاله التي تزن 20 كيلو من النحاس والذي قيل إن قطعها كان بسبب السرقة - من قبل الجماعات الظلامية للإسلام السياسي، فبرنامجهم مناقض لبرنامجه، ونهجه مخالف لنهجهم. فهل يكون الدور على روؤس الأحياء من تلاميذه وكل الذين يفكرون مثل أستاذ الجيل؟ الإجابة ستنطق بها الأيام القادمة. .. فاحترسوا