لا قيمة لشعب يتحصل علي حريته واستقلاله ويكتفي بهما, دون أن يجعل منهما الوسيلة لحضارة تقوم علي الثقافة والعلم, وإلي القوة الناشئة عن الثقافة والعلم و الثروة التي سوف تنتجها أيضا الثقافة والعلم. في عام1937 دعي طه حسين لتمثيل وزارة المعارف في مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري, الذي عقد في باريس, كما شارك موفدا من الجامعة في مؤتمر لتعليم العالي في صيف العام نقسه, وقد واكب حضور المؤتمرين زخم ثقافي محمل بالأمل, أعقب توقيع مصر معاهدة الاستقلال, وشعور عام بأن مرحلة جديدة في تاريخ مصر تبدأ, وأسئلة تطرح عما ينبغي لمصر أن تفعله في مرحلة ما بعد توقيع المعاهدة. كان علي طه حسين أن يرفع تقريرين عن المؤتمرين كالعادة, لكنه لم يفعل ووجدها فرصة ليضع كتابه عن مستقبل الثقافة في مصر, فالتقارير وإن حالت ظروف مصر السياسية وقتها دون اهتمام الجامعة ووزارة المعارف بها, سوف يكون مصيرهما في أفضل الأحوال أن توزع علي دوائر ضيقة من المهتمين, وهو طه حسين يريد حديثا أعم, لجمهور أوسع, وفكرة الكتاب وإن استلزم مجهودا أشق ستكون أجدي وأنفع, لأن الناس سوف تري فيه صورة للواجب المصري فيما بعد الاستقلال, والأهم أن الشباب الباحث عما ينبغي عليه عمله بعد الاستقلال والحرية سوف يجد إجابة عن تساؤلاته, فالحرية ليست نهاية المطاف, بل هي تمهد الطريق لمسئولية أفدح هي التي لخصها العميد في الرؤية التي تتصدر هذه الكلمات, هناك تبعات جسام في تعقب وصول أي شعب لامتلاكه زمام نفسه, أشقها بناء البشر, وبناء البشر لا يتأتي إلا بالعلم والثقافة, وكتاب مستقبل الثقافة في مصر الصادر منذ ما يقرب من خمسة وسبعين عاما مازال أشبه ب روشتة حكيم, مدرك وملم يملأه الشوق ل مصر قوية, وفي الوقت نفسه يخشي أن تضيع اللحظة, وتتوه الفرصة, في خضم الفرح بتحقيق الحرية( بإحياء الدستور وقتها والاستقلال), الحرية والدستور هما العتبة المؤدية لشعب متحضر, وإلا فلا نفع فيهما, وكلمة متحضر تضغم أو تحوي في داخلها معان القوة, والعزة, والكرامة من جهة, ومعان القدرة الإنسانية علي الإسهام علي قدم المساواة في حضارة الإنسان, والمعرفة والثقافة, وإن كانت الركيزتان فالتعليم أساسهما, وعن التعليم تأتي التفاصيل دقيقة كاشفة عن تكامل الرؤية التي تدحض القول بفروق عقلية بين البشر, وتؤكد مبدأ ديمقراطية التعليم. وقبل تفاصيل روشتة التعليم التي لابد أن نعترف أن خمسة وسبعين عاما لم تكفنا للأخذ بها, يقدم طه حسين إجاباته عن أسئلة الغريب أنها مازالت بعد قائمة حتي وإن تغلفت بصنوف شتي من الصور والمعادلات الثنائية عن علاقة مصر بإرثها الثقافي, وعلاقاتها بأذرع التراث الإنساني شرقا وغربا مضطرا إلي تأكيد مبدأ الأخذ والعطاء القائم علي المنافع العملية فلا خوف علي الشخصية و الذات. ومصر البحر متوسطية كما رآها نشأ عقلها متأثرا بظروف طبيعية وإنسانية أحاطت بها, ونما وتربي وتأثر بالفعل اليوناني ثم بأسرة بحر الروم, وهي احتفظت بذاتها أو عقلها المستقل علي مدي حقب متباينة, فإذا ما انفعل بعد ذلك في سياق تأكيده مبدأ تبادل المنافع إلي الحديث عن المسلمين فإنه يري أنهم أقاموا دولتهم علي فكرة تبادل المنافع, وقد فطنوا منذ عهد بعيد إلي أصل من أصول الدولة الحديثة, وهو أن السياسة شيء, والدين شيء آخر, وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان علي المنافع العملية قبل أن يقوما علي أي شيء آخر( مستقبل الثقافة ص24). لن تبارح الدهشة أي مطالع لأفكار طه حسين في مستقبل الثقافة في مصر, وهو يري تفاصيل خطة النهوض التي مازالت صالحة حتي اليوم, التي لم تترك شاردة ولا واردة في التعليم إلا وتوقفت وقدمت اجتهادات مفصلة لها من التعليم الأولي وحتي الجامعة والأزهر إجابات عن المنهج والبشر, يعني المحتوي والطالب والمعلم الدولة والناس, والتعليم وأجنحة أخري معاونة تأتي بعد أن تنظم مصر تعليمها المدني والديني, ويأتي المثقف علي رأس ذلك فلابد من تمكين المثقف كي ينجح معرفة, والمثقف هنا لفظ يمتد ليشمل منهجي المعرفة أدبا وعلما, كي تنتشر الثقافة بين مختلف طبقات الشعب فتنشأ( الصلة العقلية والقلبية) بين الشعب الواحد ثم بينه وبين غيره من الشعوب( فتسهم مصر بتغذية أمم أخري). المعرفة( بالتعليم والثقافة الحرة) هي التي تضمن شعبا يعرف كيف يختار من يحكمه, شعب يعرف كيف يقاوم, وكيف يحسن انتهاز الفرص السانحة. وثقافة مصر عند العميد طبقات ورقائق, لم تمح واحدة أخري, هي تراث مصر القديم, وتراثها العربي الإسلامي, وهي ما كسبته مصر وتكسبه كل يوم من ثمرات ا لحياة الأوروبية, كل هذه العناصر المختلفة تلتقي في مصر, فيصفي بعضها بعضا, وينقي بعضها من بعض ما لابد من تنقيته من الشوائب التي لا تلائم النفس المصرية فيتكون ذلك المزاج المصري النقي الرائق الذي يورثه الآباء للأبناء. مصر طه حسين( ذات المزاج الرائق) يتكامل فيها تمثال الكاتب المصري, ونقش منبر مسجد السلطان حسن, وموسيقي فاجن.. ثقافتها مصرية إنسانية. وكل ذلك لا يتأتي بغير تعليم.. بغير معرفة.