عندي شعور بأننا في زمن التصفيات. أو أسبوع الفضل والبواقي الشهير الذي كانت فيه محال الأقمشة تبيع ما تبقي لديها من أثواب القماش.. بأسعار مخفضة للتخلص منها. كل تراكمات ال30 سنة الأخيرة تُعرض الآن في الفتارين لكي يشتريها الناس بأي ثمن. كل الأفكار تريد أن تبيع نفسها بنصف الثمن. الديكتاتور الذي حكم بالطول والعرض.. وبالأمن والصفقات.. يريد أن يستمر ولو كان مريضًا.. ويقبله الناس علي أنه المخلص والمنقذ. والإخوان المسلمون الذين كانوا «حكام الظل» يريدون أن يشاركوا في الطبخة الجديدة ولو بنصف صفقة ومئات المعتقلين. والمعارضة المرتبكة تريد أن تقفز في سفينة البرادعي.. أما المعارضة المدجنة فتخاف من السفينة وصاحبها وتلتصق أكثر بجسد السلطة. هذه الأيام هي خلاصة 30 أو 60 سنة من محاولة المصريين صناعة دولة حديثة بأيدٍ مصرية. ونتاج محاولة الخروج من محنة الاستعمار الأجنبي.. لكنها انتهت إلي محنة أكبر بكثير. أسلوب «البقاء للمتوسط» أودي بنا إلي الحالة التي نعيشها وأهمها نظام مبارك الذي لم يكن يمكن أن يستمر سنة واحدة إذا لم تكن الأنظمة السابقة اعتمدت اختيار أصحاب المواهب المتوسطة والأقدار المتوسطة والمستوي المتوسط. مصر الآن جنة «المتوسطين». وما تعيشه هو نتيجة طبيعية لهذه السيطرة من أصحاب العقول والكفاءات والأرواح المتوسطة. المجتمع يشبه النظام.. في أنانية «المتوسط» النظام يستبعد أي بديل. والمسلمون يستبعدون الأقباط. والرجال يستبعدون النساء. والجميع يحتكم إلي حقائق مطلقة تلغي تطور البشرية... وتحول الإنسان إلي ماكينة تنفذ الكتالوج بلا تفكير.. ولا رغبة في إعمال العقل. هؤلاء يجسدون محنة مصر التي صنعها «المتوسطون» المتوسط كسول وأناني.. يريد القفز إلي موقعه وتدمير كل الجسور لكي لا يصل أحد بعده. وعندما يصل لا يشغله سوي الموقع.. وهذا يعني أن يدير الرئيس مبارك البلاد بقوانين استبدادية من منتجات الأنظمة الشمولية ثم يسافر للعلاج في أحدث المستشفيات دون أن يفكر مثلاً في تطوير المستشفيات المصرية.. لأن المهم هو الاستمرار في الموقع. وهذا ينطبق علي تفاصيل أخري في المجتمع نفسه.. يطالب القضاة بالاستقلال عن الدولة لتطبيق العدالة، وعندما تطالب المرأة بحقها في العمل بالقضاء تخرج من تحت بدلة بعض القضاة نظرة ريفية قديمة جدًا تنظر للمرأة بانحطاط شديد.. وتتعامل معها علي أنها مجرد مديرة منزل. هذه التصورات عرجاء.. من النظام إلي المجتمع الذي مازال يحيي الأمهات علي فكرة الاستشهاد.. لم تتغير صورة الأم المثالية من الخمسينيات إلي الآن. الفرق هو التراجع الكبير بين منح اللقب المثالي لأم علمت أولادها.. بينما المثالية اليوم هي السير تحت حماية النصوص ومن يفسرها. لست من الذين يعتقدون أن التطور خط يسير إلي الأمام.. لكنني أحاول أن أري ما يحدث في مصر علي أنه ليس تراجعًا.. ولكنه نتيجة طبيعية للسير بقدم واحدة بينما الرأس أو العقل يعيش في ثلاجات الموتي. قارئة علقت علي مقال أمس الأول بأن ما يحدث في مصر مؤامرة جعلت نساء مصر تريد ترك البيت وتطالب بالعمل كمأذونة أو قاضية. هل الزمن يتوقف إلي هذا الحد عند صورة غامضة عن المرأة والرجل وموقع كل منهما في الحياة؟ هل الزمن الذي لم تخرج فيه المرأة من بيتها سعيد، والزمن الذي تطالب فيه المرأة بحقها تعيس؟ هل عندما يطالب المصريون بتغيير الرئيس مبارك.. هو علامة الزمن الرديء كما يتصور كُتّاب الحكومة ونوابها في البرلمان الذين يريدون استقبال الرئيس بعد العودة من العلاج؟ هذه علامات مجتمع قادته الأنظمة إلي فقدان العقل والحركة بغرائز يلعب بها «حكام» اللحظة الراهنة في كل المجالات.. وهم أصحاب القدرات المتوسطة الذين يحبطون كل دعاوي الخروج من محنة الثلاثين عامًا ويوهمون المجتمع بأن ما يحدث «عقاب إلهي».. و«خروج عن صحيح الدين».. وهي أوهام تريد للمجتمع البقاء في الحجم المتوسط. وقبل أن أنسي لابد من اعتذار علي التسرع في مقال أمس الأول الذي ذكرت فيه أن مصطلح مراكز القوي عُرف أولاً مع السادات.. ونبهني قارئ متيقظ إلي أن المصطلح عُرف كوصف لرجال عبد الحكيم عامر بعد حرب 1967 وعنده حق.. إلا أنني كنت أقصد أنها المرة الأولي التي يحسم فيها المصطلح صراعًا في السلطة.. وشكرًا ليقظة القراء.