قليل من الصبر يغنى عن الكثير من النقود. الموضات الغالية والماركات العالمية تنتقل بعد فترة من المولات الفاخرة والفاترينات البراقة إلى أرصفة ودكاكين السوق الشعبية الكبير فى وكالة البلح بأسعار أرخص كثيرا. تتجول بين فاترينات المولات الفاخرة، تتأمل جيدا وتحتفظ فى ذاكرتها بتفاصيل ما تريده من ملابس. تعرف أن الأسعار بعيدة تماما عن حدود ميزانيها. هى فى النهاية لن تشترى شيئا ولكنها ترجع إلى بيتها بلا أسف أو ضيق. فبعد فترة قصيرة سيكون كل ما أعجبها من موضات فى الوكالة.. هذه هى الخطة الدائمة لمواجهة أسعار الملابس التى تكشفها أمانى، الطالبة بالسنة النهائية فى كلية الآداب، وهى تتجول بين ممرات وكالة البلح فى بولاق أبوالعلا. منذ دخولها الجامعة ومحاولتها الظهور بمظهر جيد وسط منافسة قوية من أزياء الفتيات هناك، لم تجد ملاذا إلا الوكالة والآن أصبحت لها خبرة كبيرة بالمكان. أطلق على هذه السوق الشعبية العريق اسم «وكالة البلح» لاستقطابها تجار البلح فى رمضان من مختلف محافظات مصر خاصة أسوان والأقصر ورشيد وسيوة. وفى الشهر الكريم كان المكان يمتلئ عن آخره بالجمهور والتجار ولكن لا يلبث الهدوء أن يعود للمكان بعد انتهاء الموسم. وتدريجيا بدأ تجار الأقمشة والملابس يتوافدون ويشترون المحال المعطلة طيلة العام. وانتقل تجار الخضروات والبلح إلى ساحل روض الفرج. تمتد الوكالة على مساحة قدرها 120 فدانا، وبدأت شهرتها مع بداية الانفتاح الاقتصادى، عندما أصبح بإمكان التجار شراء الملابس المستوردة والمستعملة وبيعها هناك حتى أصبحت الوكالة أكبر سوق ملابس شعبية فى مصر. يقف الشاب يوسف على الرصيف ينادى على فرشته الخاصة. منذ ان كان فى العاشرة من عمره يفعل ذلك، ولكن بمساعدة إخوته الثلاثة بعد أن أصبحت لهم تجارتهم الخاصة وأكثر من فرشة فى الأسواق الشعبية. يقول يوسف: «معظم بضاعتى من تركيا أو الصين، بتيجى فى كاونتر كبير وأحيانا يكون فيها عيوب تصنيع أو «ديفوهات» ومالهاش زبون من الناس المقتدرة فبناخدها إحنا ونسوّقها». انتعشت التجارة مع بداية السوق الحرة فى بورسعيد، واعتمدت على صفقات يعقدها تجار منفردون يشترون من بورسعيد ويبيعون فى الوكالة ويوفرون على الناس مشقة السفر. لكن الآن يتم استيراد الملابس عبر شركات متخصصة فى التخلص من الملابس المستعملة والتى تحوى عيوب تصنيع من مختلف دول العالم حتى أوروبا، ويتم توريدها إلى أسواق شعبية أفريقية وآسيوية منها الوكالة، وبعد وصولها مكان بيعها يتم غسلها وتعقيمها ويتبقى على البائع أن يقوم بكيها وتعليقها بمحله. يقوم البائعون بفرز البضاعة وتصنيفها ووضع كل قطعة فى مكانها المناسب. القطع منخفضة الجودة ورخيصة الخامة والمستعملة والمغسولة تعرض فى «استندات» بالشارع وتكون عرضة لهبوب الرياح والغبار. فهى أرخص ولكن أقل جاذبية. أما الاكثر جودة فيعرض على بوابات المحال ويباع الكيلو منه للتجار ب30 جنيها، أما «الكريمة»، كما يسميها أبناء السوق، فهى القطع الأفضل فى الخامات وفى الجودة ومن ماركات شهيرة، وتحفظ فى داخل المحال وهى الأكثر جاذبية للناس ويقومون بالفصال والتفاوض كثيرا لتقليل ثمنها ويتراوح ثمن الكيلو منها للتجار من 50 إلى 70 جنيها. العديد من التجار لا محال لهم، يبيعون على الرصيف فى الهواء الطلق، منهم يوسف الذى جعلته جلسة الشارع متململا ويتمنى أن يستقر فى مكان خاص به، ولكن إيجارات المحال هنا مرتفعة. فأركان السوق مشغولة تماما، المساحات مقسمة إلى محال أبعادها لا تزيد على مترين فى مترين. وكل محل يشغل أيضا مساحة أمامه، حتى الطرقات مشغولة إلا من ممرات ضيقة تتجول فيها بين من يضعون بضاعتهم على سيارة أو فرشة على الأرض أو «ستاند» فى جانب الطريق مثل يوسف. طبقات مختلفة فى الوكالة فى هذه الممرات تتجول فئات من طبقات مختلفة، فهناك من يدل مظهرهم على يسر الحال مثل ذلك الشاب الذى يسأل عن ماركات بعينها من الجينز ويختار القطع عالية الجودة ويفاصل من أجل توفير بعض النقود، وهناك أيضا من يدل مظهرهم على حالة أقل يسرا، مثل فاطمة.. وهى فتاة فى الرابعة عشرة من عمرها وابنة بواب فى إحدى عمارات حى مدينة نصر القريبة من «جنينة مول» تفاصل قليلا مع البائع استعدادا لشراء جيبة رأت مثلها فى «جنينة». فاطمة حفظت خريطة أسواق مصر وآلية التسعير وقواعد الفصال فى كل مكان وللوكالة نصيب أكبر من جولاتها. تقول فاطمة: «أنا باروح المول وباتفرج على اللى البنات لابسينه واللى فى الفاترينات ولما بانزل أى سوق رخيصة كده باستغرب. نفس الحاجات هناك موجودة هنا بس فرق السعر زى ما بين السما والارض». تذكر فاطمة كيف أنها كانت ترتدى تونيك مشابها تماما لما ترتديه إحدى ساكنات العمارة التى اندهشت وقالت لها من أين لك هذا، وكانت قد اشترته من مول فاخر ب160 جنيها، فردت فاطمة بأنها اشترته من الوكالة ب40 جنيها فقط. «ربنا هايكرمنا ببركة الغلابة» هكذا يقول الحاج خالد، الذى يفترش الرصيف بمجموعة من الأحذية وينادى بأسماء الماركات معلنا أنها بعشرين جنيها فقط. يضحك الحاج خالد: «ما تستغربيش السعر، إحنا عاوزين نسترزق والحمد لله لا عندنا إيجار شهرى ولا جمارك، بس عاوزين نبيع. واللى هاتلاقيه فى المول هاتلاقيه هنا». يقسم خالد بأغلظ الأيمان أن البضاعة تأتيه من هذا المول وذاك بنفس حالتها لأن موضتها تراجعت عندهم أو قل الإقبال عليها: «لكن عندى بتتخطف هوا». لذا فكلا الطرفين يكسب وكلاهما يلبى رغبات جمهوره ويعرف كيف يرضيه. ومن أجل اجتذاب الجمهور، يرفع الباعة أصواتهم طوال اليوم بنداءات فيها سجع. قد تبدو للبعض ضجيجا مستمرا، ولكن بعد فترة يشعر الجميع أنها أصبحت تشكل نغما خاص يميز أجواء السوق وتعكس حماسة البائعين وتنافسهم ومهارتهم فى صياغة النداءات الجذابة المرحة. تلك الأجواء الصاخبة تشكل ألفة للبعض لا يجدها فى أجواء المولات.