بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بعام واحد انتهى عصر جهاز ال "كي جي بي" (لجنة أمن الدولة) وظهر جهاز "في إس بي" (هيئة الأمن الفيدرالية). أي أن جهاز "كي جي بي" ذهب مع الدولة السوفيتية وانتهى الأمر. ولكن يبدو أن البعض لا يزال يعيش في مراحل الثمانينيات والتسعينيات، مؤكدا على أن روسيا هي الاتحاد السوفيتي وأن جهاز المخابرات "كي جي بي" لا يزال يحيك المؤامرات!!! هذا الحديث يأتي بمناسبة أن جهاز "كي جي بي" الروسي و"الموساد" الإسرائيلي تآمرا ضد رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي وراعي حلف الناتو في المنطقة السيد رجب طيب أردوغان، ووضعا أجهزة تنصت في بيته ومكتبه. هذا الكلام بثته قناة "دي" التركية وتناقله البعض هنا في مصر باعتباره حقائق دامغة للإشارة إلى أن التجربة الإسلامية في تركيا تتعرض لمؤامرات الخارج والداخل. وأن عملاء إسرائيل وروسيا يتعاونون مع ما يسمونه في تركيا بالدولة العميقة تارة وبالدولة الخفية تارة أخرى. لقد جاء حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا على تراث ليس الإمبراطورية العثمانية، التي احتلت دولا كثيرة وعاثت فسادا في الشرق والغرب ومذابح الأرمن واليونانيين والبلغار تشهد على تاريخ من العار، بل على التراث الذي دشنه مصطفى كمال أتاتورك بعد القطيعة التاريخية مع الماضي العثماني المظلم. وتطورت تركيا ما بعد الرجل المريض، الذي وزعت تركته، كدولة علمانية ووفقا لدستور علماني. وجاء حزب العدالة والتنمية منذ 10 سنوات ليقود دولة علمانية وفقا لخريطة واضحة للعسكر فيها نصيب كبير. وخلال 10 سنوات تمكن التيار الإسلامي المتوافق مع حلف الناتو وعضوه الأمين في المنطقة من تغيير معادلة العسكر نسبيا لصالحه. وليس من المدهش هنا أن يكون التعاون بين تركيا ما قبل العدالة والتنمية وما بعده هي الصديق الصدوق لإسرائيل والدولة الناشطة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأمنيا معها.
بعض الكتاب يفبركون الأمور كما يرتأون وكما يريدون لكلامهم أن يستقر. ولكن خلط الأوراق من أجل إلقاء تهم العمالة لدول أخرى والتجسس لصالح أجهزة غير موجودة أصلا كانت في دول لم تعد أيضا موجودة، أمور كلها تثير الشفقة قبل الدهشة. خلاصة القول، المشروع الذي يجهز الآن للمنطقة العربية ليس بعيدا أبدا عن تركيا. ولنراجع تاريخ حركة النهضة في تونس وقياداتها بحزب العدالة والتنمية في تركيا، وهذا ما ينطبق أيضا على التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. ولم يكن دور أنقرة في غزة - حماس وقضية السفينة التركية والخلافات التركية – الإسرائيلية مجرد أحداث عابرة، بل خطوات محسوبة جيدا.
إن حزب العدالة والتنمية وزعيمه حارس مصالح الناتو في المنطقة لم يخرج عن أطر التوصيفات الكلاسيكية. فتارة هناك مؤامرة من العسكر. وتارة، هناك محاولة انقلاب من العسكر. وتارة ثالثة، هناك محاولات تجسس من دولة ما خفية على الحزب وقياداته لضرب التجربة الإسلامية ومعاداة كل ما هو إسلامي في تركيا التي يريد البعض إعادتها قسرا إلى جلباب الإمبراطورية العثمانية الملطخ بالعار والدماء. ولكن أن تتوازى الأحداث التركية مع ما يجري في مصر، فهذا يحيلنا إلى قضية أخطر بكثير مما نتصور. فالشعب المصري يتآمر على الإخوان المسلمين، والقوى السياسية تتآمر على الإخوان المسلمين، والجيش يتآمر على الإخوان المسلمين، والأجهزة الأمنية تتآمر على الإخوان المسلمين.. وقد نسمع قريبا أن إسرائيل واليهود المصريين فيها وخارجها يتآمرون على الإخوان المسلمين! ولا نستبعد في هذا السياق أن يهب جهاز "كي جي بي" من الاتحاد السوفيتي غير الموجود أصلا ليتآمر على الإخوان المسلمين..
لقد جاء حزب العدالة والتنمية الإسلامي على تراث مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة التي أصبحت عضوا في حلف الناتو ودولة قوية اقتصاديا وسياسيا وجيوسياسيا وأمنيا، ولديها علاقات متينة مع كل دول العالم وعلى رأسها إسرائيل. ولكن على أي تراث جاء الإخوان المسلمون في مصر؟!! ما يعني أن تصفية الجيش والأجهزة الأمنية واتهام الشعب والقوى السياسية بالتآمر ومن ثم تصفية من يريدون تصفيته لا يعني إلا شيئا واحدا، وواحدا فقط، ألا وهو إقامة نظام ديني فاشي لا يمكن حتى تصنيفه ضمن التيارات الدينية اليمينية.
الكتاب الذين يعيشون في عصر "كي جي بي" يعتمدون على وسائل الإعلام والقنوات التركية في فبركة الأحداث وخلط الأوراق، ثم يشعلون خيالهم للمزيد من خلط الأوراق في مصر. وفي النهاية يؤكدون أنهم لا يمتلكون أدلة أو وثائق. ليكن ذلك. ولكن لا واشنطن ولا أنقرة ولا تل أبيب تريد نسخة أخرى من تركيا في المنطقة، ولن يحدث ذلك في مصر، لأنه ببساطة لا يخدم السيناريو القائم. هناك سيناريوهات أخرى أفغانية وعراقية وصومالية، وربما سيناريوهات إيرانية على النسق السني، وهو ما يتوافق جيدا مع خطط واشنطن والمحور الأورو – أطلسي، ويتوافق أيضا مع طموحات الإخوان المسلمين للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة. وبالتالي فتصفية القوى السياسية والجيش والأجهزة الأمنية لا تقود إلا إلى حرس ثوري ووزارات أمنية على نسق القرن الرابع الهجري. وفي كل الأحوال لن تتمكن واشنطنوأنقرة وتل أبيب وقطر من إقامة نموذج إيراني سني في مصر. وذلك يعود ببساطة إلى أن الخوميني جاء على دولة قوية ومتقدمة، وليس على دولة تم تجريفها طوال 30 عاما!
من الواضح أن الجيش في مصر قد جاء دوره. ويسود اعتقاد بأن المواجهة بين الإخوان وبقية تيارات اليمين الديني المتطرف من جهة والجيش من جهة أخرى قادمة لا محالة. ولا أحد يستبعد أن يستخدم الإخوان كل القوى والمنظمات المتطرفة والجهادية والأموال الإقليمية والدولية والأسلحة ضد الجيش في حالة المواجهة. وبالتالي، فالشعب في هذه الحالة سيكون الحصن الأمين للجيش. إن الإخوان يعتمدون في تلك الخطوة على أن القيادات السابقة أسهمت في تشويه سمعة الجيش وإبعاد الناس عنه ونزعت عامل الثقة بينه وبين الشعب. وإذا حاول الجيش الدفاع عن نفسه الآن سيجد نفسه وحيدا بمفرده بعد أن نجح الإخوان في عزله تماما وليس إبعاده عن السياسة فقط تمهيدا لتصفيته في الوقت المناسب. وبالتالي على الجيش أن ينتبه جيدا ويدرك أنه مطالب بالاعتذار عما فعلته القيادات السابقة. وهذه أول خطوة نحو الشعب. الخطوة الثانية هي الضمانات الحقيقية بعدم بقائه في الشارع أو في السلطة وترك الساحة السياسية للقوى المدنية ولمجلس رئاسي مدني.