لا أدري كيف يمكن أن يستغيث المظلوم بالظالم، أو المقتول بالقاتل، أو كيف يمكن أن تشكو جلادَك لمن أعطاه السوط ليضرب ظهرك ووجهك وقفاك إن أراد.. هذا تماماً ما يفعله عمال مصر.. يستغيثون في اعتصاماتهم بالحكومة التي باعت وخصخصت ومصمصت دم مصانعهم، ثم أسلمتها لرجال أعمال ما هم برجال وما لهم أعمال سوى مواصلة سلسلة نهب الأرض ومص دماء المطحونين في هذا البلد.. إن ما نراه من سلسلة الاعتصامات العمالية لا هدف لها سوى أن تتعطّف الحكومة وتتدخل كرماً منها ليقوم المستثمر -أيا كان هو- بصرف رواتب العمال المتأخرة منذ شهور كما في اعتصام عمال شركة النوبارية أمام مجلس الشعب، أو طمعاً في عدة جنيهات من الحوافز المقطوعة الممنوعة بلا سبب كما في حالة عمال سالمكو.. رجال وشباب ينامون في الشارع وبعضهم تجاوزت فترة اعتصامه أربعة عشر يوماً، ولا من مجيب ولا من سائل.. وكأنهم لا شيء.. لا يراهم أحد ولا يستمع لهم أحد ولا يلتفت إليهم أحد.. لقد فقد الكثير من عمال مصر عملهم، فقدوا دخلهم، والبعض منهم بسبب هذا الانهيار في الدخل فقد أسرته، ثم قبل كل هذا وبعد كل هذا ارتضت الدولة وارتضت حكومتها لهؤلاء العمال أن يفقدوا كرامتهم وعزتهم وتركتهم يتلحفون السماء ويفترشون الأرض؛ طمعاً في أن يصعب حالهم على الرجال الذين يسكنون القصور ويعيثون في مصر فساداً.. بعد أن حوّلوها إلى كوكي بارك. شاليهات في مارينا، وفيلات أصبحت فوق الأرض وفوق الجبال وفوق سطح البحر، وعمال مصر يبيتون في الشارع ويتسولون الطعام من أصحاب القلوب الرحيمة.. كل هذا ورجال الدولة يبيت كل واحد منهم قرير العين هانئها.. "ولا كأن فيه حد بيعيط وبيصرّخ وبيعضّ الأرض، ولا أي حاجة"، وهكذا تحوّل الشعب المصري -صاحب الأرض وصاحب هذا البلد- إلى أجير مطحون عند رجال الأعمال، وإلى خادم لا حقوق له عند حكومة الخزي والعار في هذه المرحلة البائسة من تاريخ مصر.. إن كل القيم الأخلاقية وكل الأحكام السماوية؛ بل إن أبسط قواعد الإنسانية ترفض ما يحدث على أرض هذا البلد، من الحكومة ومن الشعب معاً.. فالحكومة تتعامل بمنطق آلهة الإغريق، والشعب يتعامل معها بمنطق المتسول العاجز الذي لا سبيل له سوى أن يستعطفها ويتوسل لقمة عيشه من بقايا المائدة؛ بينما الحقوق لا يمكن تسولها أبداً.. وما كان لبشر أن يطلب الرزق بذل النفس وامتهانها. يأتي هذا في الوقت الذي تعلن فيه وزارة المالية أن العجز الكلي في الموازنة العامة للدولة خلال سبعة أشهر فقط, وتحديداً خلال الفترة من يوليو إلي نهاية يناير الماضي؛ سجّل ارتفاعاً بنسبة 1.7% ليصل إلى 65 مليار جنيه . ورغم كل هذا البؤس الذي نحياه؛ مازال رجال الحكومة يتكلّمون ويتشدقون بالاستقرار الذي تعيشه مصر، والإصلاح الاقتصادي الذي يتحرك مؤشره لأعلى! وتحسّن أحوال المواطنين في القرى والنجوع.. فضلاً عن الحرية التي منحتها الحكومة للشعب.. الحرية التي يحسده عليها كل شعوب العالم، وهل هناك دليل على الحرية أكبر من أن تسمح الحكومة للعمال أن يناموا على أرصفة مجلس الشعب لمدة 14 يوماً.. دون أن يتعرض لهم أحد.. طب هات لي بلد في الدنيا نام عمالها على رصيف أي مجلس -ولو حتى كان مجلس الأنس- 14 يوماً وما حدش يكلمهم! آه والله.. ولا حد قال لهم كلمة