(1) الخبيث.. فعلها وهرب، كان يعلم نتاج فعلته، لذا قبل أن يبتعد تمامًا، استدار للخلف وابتسم بمكر لم تعرفه الثعالب! الخبيث.. لعبته كانت متقنة، وما فعله كان قاسيًا، لكنه بكل تأكيد كان يملك سببًا وجيهاً.. الخبيث.. لم نعرف حتى الآن من هو، ولمَ- بالضبط- فعلها!. (2) في المقهى الذي نجتمع في ليلاً، نتبادل الأحاديث والحكايات، رأيتهم يلتفون حول (سيَّد)، ويستمعون إليه باهتمام شديد.. اقتربت منهم، فسمعته يروي: - بينما أنا عائد بعد صلاة العشاء، رأيته.. سألته: ما هو؟ أجابني وهو يرتعش: - العفريت!. - عفريت؟؟ - "نعم نعم.. كان ضخمًا، وطويلاً كجزع شجرة.. كان يمسك بيده عصا ضخمة.. قفزت في مكاني أول ما رأيته، قلت: بسم الله الرحمن الرحيم.. خفت أن يفتك بي.. أسرعت أعدو إلى الدار". خاف؟ (سيد) يخاف؟. ولمَ لا، الخوف أصدق المشاعر البشرية وأكثرها تأصلاً في طبيعة الإنسان، لكن (سيد) كان يصر على أنه "لا أعرف الخوف"، ذات مرة واجه عصابة كاملة من اللصوص وحيدًا، عندما حاولت سرقة جاموسته وخرافه. لم يصب سوى بخدوش بسيطة نتيجة عراك جسدي مع أحدهم، مع أن العصابة كانت مسلحة بالبنادق. (سيد) يبدو دومًا كصخرة ثابتة، لكن الآن يبدو أن هذه الصخرة كانت مجرد قشرة خادعة. سأله أحد الرجال الملتفون حوله: أين رأيته؟ أجابه: عند الغيط المجاور لعزبة (ممدوح باشا). بجانب شجرة البرتقال الضخمة تلك. قال (جابر)، الغفير ضئيل الجسد الذي يعمل عند (ممدوح باشا)، من بين الرجال، بصوت خافت مذعور: - إذن فلم أكن أتخيل!. سألوه وقد عرفوا الإجابة مسبقًا: - أنت أيضًا رأيته؟؟ - نعم.. لكنه لم يكن بهذا الحجم عندما رأيته، كان يبدو أصغر، وبرغم أنني لم أتمعن ملامحه، إلا أنني أؤكد أن الدهاء والشرور بديا واضحين في وجهه. وكان في نفس المكان بالضبط! تأملت وجوههم جميعًا، فرأيت إمارات الخوف الكامنة في ملامحهم! (3) بعدها بيومين، رأته –العفريت أو أيًا كان – زوجة (مرزوق).. عرفنا هذا من (مرزوق) ذاته، الذي حكى لنا عما رأته امرأته، عندما خرجت لتأتي ببعض الماء من ال(طلمبة).. سألناه: ما هو تحديدًا؟ فقال: - حسنًا.. ربما هي إحدى تخاريف النساء المعتادة، لكنها تقسم على أنها رأت النداهة تجوب الحقول.. - النداهة؟! قلناها جميعًا مندهشين في نفس واحد، فأكد قائلاً: - نعم.. النداهة.. هذا ليس بعفريت عادي. وحكا (مرزوق) قائلاً وهو يلوح بيده: - أنتم تعلمون أنني أسكن على مقربة من العزبة، لسنا بجوارها، لكن الطلمبة، التي تحضر منها زوجتي الماء، كذلك.. كنت قد عدت للتو للدار، عندما وجدتها تجري عائدة، وتقول أنها رأتها.. وأكملت أنا: بالطبع بجوار شجرة البرتقال الضخمة.. فأومأ. هتف (عبد الغفور)، الخفير في الوحدة الصحية: - لكن لا يوجد شيء اسمه النداهة.. إنها مجرد خرافة! فقال (مرزوق) ببساطة: - يمكنك الخروج للغيط وتتأكد بنفسك.! ابتلع (عبد الغفور) لسانه، وصمت.. حقيقة أن الظلام المدلهم بالخارج من حولنا ربما – مجرد ربما – يكون فيه وحش من نوع ما، هي حقيقة مخيفة فعلا.. ماذا يوجد وراء هذا الجدار الأسود، الذي يعمينا ولا يحمينا؟؟ قال (جابر) في تردد: - أظن أن السر في عزبة ال(باشا).. حل الصمت لدقيقتين، فقلت أنا: - يجب أن نذهب في الصباح لنرى الموضوع! تبادلوا النظرات، ولم ينطقوا كلمة واحدة للحظة، قبل أن يقول (مرزوق) فجأة: - سمعتم عن الحادثة التي وقعت بالطريق الذي يمر بجانب القرية.. يقولون أن أثنى عشر شخصًا مات. - لا حول ولا قوة إلا بالله! (4) قال الفتى الصغير (عبد الله): - يقولون أن هناك عفريت بجوار شجرة البرتقال العجوز! سألته: من يقولون هذا؟ أجابني: الأولاد.. يقول (محمد) أنه سمع أباه يحكي لأمه عنه. وبادرني بالسؤال: - هل تعتقدون أن هناك عفريت حقًا؟. - لا أعلم.. فسارع بالقول: - لكنني أعلم.. أنا ألعب هناك كل يوم، ولم أرى أي عفريت هناك ولا مرة. ربتت على كتفه وقلت: - ربما تكون محقًا. (5) أنا لست جبانًا، ولا أحتاج لهم. الصباح الباكر، أمسكت فأسي وقررت أن أعرف الحقيقة، سأذهب إلى تلك الشجرة وأرى ذلك العفريت أو النداهة، أو أكتشف أن الأمر كان مجرد خيالات مريضة لأشخاص أصاب الجهل عقولهم بالصدأ. (6) ضربة واحدة بالفأس وانتهى الأمر.. لماذا؟.. لماذا؟! الماكر.. كيف جرؤ على مجرد الاقتراب؟؟ كيف سار بتلك الخطوات الواثقة؟، كيف لم يخش نفسه.. أيعقل؟! الماكر.. وكيف كان بهذا الوثوق؟ كيف أتى بهذا الهدوء.. الماكر... ولماذا – بعد أن عرف السر- حطم المرآة، التي كانت تعكس لهم حقيقتهم، فيرتجفون خوفًا منها؟! الماكر
إسماعيل وهدان التعليق: قصة جميلة تجمع بين أساطير الواقع والبناء البوليسي المحكم. لغتها سليمة (فيما عدا أخطاء قليلة) ودقيقة، ربما يكون فيها بعض الإطالة وبعض الغموض، لكن هذا ليس خطيراً على كل حال. المهم ان نغوص-بعد ذلك- في دوافع البشر للفعل، وليس مجرد الفعل. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة.