بابل - يونيو - سنة 323 قبل ميلاد السيد المسيح: يرقد القائد المقدوني العظيم على فراشه يتلوى ويهذي تحت وطأة الحمّى, يهرع رجاله لجناحه إثر بلوغهم الخبر المريع: الإسكندر يحتضر! يتبادل الرجال المخضرمون نظرة تحمل رسالة واحدة تتساءل عن مصير الإمبراطورية المنحوتة بسيوفهم وسنابك خيولهم بقيادة ذلك الشاب الذاهب للعالم الآخر، لمن تكون الرئاسة على أول دولة عالمية في تاريخ الإنسان؟ "برديكاس" قائد الفرسان؟ أم "كليارك "قائد الجنود؟ ربما "ميليجر" قائد المشاة؟ أم "بطليموس" رفيق عمر الإسكندر وربيب البيت المقدوني الحاكم؟ ولماذا ليس "سليوقس" قائد الحرس؟ تتجمع النظرات على صدر الجسد المتهالك أمامهم، ترقب صعودًا وهبوطًا يزداد تباطؤهما، لحظات ثم يفتح الإسكندر عينيه في لحظة وعي سرقها خلسة من سكرات موته، أدار الضوء الأخير لبصره في رفاق كفاحه المتسائلين عن وريث ملكه العريض، وقال كلمة واحدة: "كراتستو!" ثم ذهب إلى حيث لا عودة... كراتستو! هي كلمة إغريقية قديمة تعني "الأقوى".. ولكن كُتِبَ لها أن تتحول لحكم بالموت على المشروع الإنساني العظيم للدولة العالمية، حيث كانت معناها واضحًا: السلطة ستكون للأقوى بين القادة! والحقيقة أن هؤلاء الأخيرين لم يتقاعسوا عن تنفيذ الوصية، فسرعان ما انطلق كل منهم لبقعة من الأرض معلنًا نفسه سيدًا عليها ومسلطًا سيوف رجاله على رفاق الأمس في صراعٍ دامٍ على السيادة، تمت خلاله تصفية خيرة رجال الإسكندر؛ حتى اقتصرت السلطة على ثلاثة: بطليموس في مصر وجزر شرق المتوسط، سليوقس في سوريا والعراق، وأنتيجونس في بلاد اليونان وتركيا، استقل كل منهم بقطاعه. غرق الجناح الأوروبي من دولة الإسكندر في الصراعات الداخلية بين المطالبين بالعرش وبقايا الأسرة المالكة المقدونية، واشتعل الجناحان -الآسيوي والإفريقي منها- بنيران الصراع بين البطالمة من مصر والسلوقيين من سوريا على السيطرة على منطقة لبنان وفلسطين الإستراتيجية، وهكذا فقدت الدولة الهللينستية وحدتها، وانهار حلم الإسكندر العالمي عندما تفتَّت تركته التي شملت أغلب المعروف من بلدان العالم القديم. والمثير أن هذا التمزق لم يوقف عملية "العولمة" بل غيّر مسارها، فتحولت من امتزاج للثقافات إلى "تغليب" للثقافة اليونانية، صحيح أن ثمة مظاهر للمزج والتأثر المتبادل تمثلت في بعض جوانب الحياة، كمزج المعبودات المحلية بتلك اليونانية أو التزام البطالمة في مصر مظاهر وطقوس الملكية الفرعونية، ولكن كل هذا لم يمثِّل روح مشروع الإسكندر الأكبر، حيث تحولت الهللينستية من نظام عالمي رعاياه متساوون مختلطون إلى مجرد "نظام ثقافي"، بينما ساد النظام الحياتي الفعلي نظام "الطبقية" على أساس الانتماء للعرق اليوناني، فتحولت المجتمعات الهللينستية إلى مجتمعات يحكمها سادة يونانيون مستوطنون، ويخضع فيها العامة الوطنيون من أبناء البلد، حتى أن الزواج المختلط كان يمثّل مخالفة صارخة للقانون لزمن طويل في مصر البطلمية، ولم تنكسر تلك القاعدة سوى في النصف الثاني من العصر البطلمي. نعم.. تبدلت عولمة الإسكندر لتتحول لعولمة ممسوخة قائمة على القهر والتمييز العرقي، وللأسف، في رَحِم تلك الظروف وُلِدَت كثير من الصور السلبية للعولمة كما عرفها العالم حتى يومنا هذا! الإسكندرية - سنة 48 قبل ميلاد السيد المسيح الدخان يخنق المدينة الراقية، وألسنة اللهب تمتد من بقايا الأسطول البحري البطلمي إلى مكتبة الإسكندرية ذاتها فتأتي عليها.. والعد التنازلي لاكتمال سقوط الشرق في يد الرومان -الحالمين بدورهم بإقامة عولمتهم الخاصة- يتسارع! هؤلاء السادة العظام! "النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظرها بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقادًا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء".(عبد الرحمن بن خلدون-المقدمة) هي ليست بالقصة الجديدة، أن تنتشر عقيدة تقديس نمط حياة الغالب ويظهر مريدوها وسدنتها بدعوى التفتح والتنوير، يمكنك أن تتأكد من هذا بنفسك عندما ترى "جمال" في مصر يتحول إلى "جيمي"، ويمشي المشية المترنحة لمطربي الRap الزنوج وهو يتحدث بيديه أمام مطعم الوجبات الأمريكية الجاهزة الذي غادره للتو، أو فحين تلاحظ أن "مهدي" الجزائري لا ينطق سوى لفظ عربي واحد بين مئات الألفاظ الفرنسية، وتحمد الله حين تستطيع -بصعوبة- أن تتبين عبارة "السلام عليكم" المنطوقة بلكنة غربية، أو ربما إذا تصادف وشاهدت "نواف" في السعودية بالتصفيفة الصادمة لشعره الملون بألوان زاعقة وهو "يفحِط بالسيارة حَقُّه" (يقود السيارة بشكل بهلواني أخرق)، وأن تنظر لمدينتك من أعلى فلا ترى أكثر من المباني الخرسانية للمولات أمريكية الطراز، فتشعر أنها خوازيق مزروعة في جسد وطنك، وتصاب بالضيق عندما تكتشف أنك صورة ممسوخة من "سادة العولمة وقادتها" حيث يتلاشى نمط حياتك الأصيل في تقليدهم -إما بإرادتك أو مضطرًا لمجاراة الواقع المفروض عليك- فتكتشف أن هويتك لم يبقَ منها سوى بضعة أحرف في خانة الجنسية بأوراقك، ولسان يشكو من فرط ما أصاب لغته من تشويه بتعبيرات وألفاظ ما أنزل الله بها على الشرق من سلطان! هذا ما حدث منذ أكثر من ألفي عام، عندما انتشر في بلاد الشرق تقليد "السادة العظماء القادمين من وراء البحر"، فبدلاً من أن تكون العولمة "مزجًا" للثقافات تحولت إلى "مسخ" لها! فانتشر نمط الحياة اليوناني بشكل ممسوخ، وأصبح البعض يحرص على أن يكون له بخلاف اسمه المحلي اسمًا يونانيًا آخر، بل ومن الناس من هجروا أسماءهم القديمة أصلاً، وأصاب الألسنة الشرقية عَوَجٌ جعلها ترطن بالإغريقية! الرافضون: وكما أن لكل حركة "تغريب" سدنتها وأتباعها، فإن لها أعداءها الذين يعتبرون أن السماء ألقت على عواتقهم مهمة التصدي للوارد على مجتمعاتهم من ثقافات، والواقع أن الشرق شهد حركات قوية لمن يمكننا وصفهم ب"السلفيين"، نعم، فالسلفية هي التمسك المتشدد بموروث السلف، سواء في مجال الدين أو الفن أو الثقافة أو أي مجال إنساني، وإن جرى الفهم -الخاطئ- على قصرها على الدين. والغريب أنه كما تحاول "السلفية الدينية" اليوم قيادة ما تعتبره هي جهادًا ضد "التغريب"، فإن السلفية الدينية القديمة هي التي سعت لتزعُّم المواجهة ضد أغرقة الشرق. بالفعل ظهرت حركات "سلفية" قوية تحاول التصدي لكل من عمليتي المزج والغزو الثقافيين، أشهرهما تركزت في جنوب مصر -تحديدًا في طيبة- على يد الكهنة الذين تمسكوا بمكانتهم القديمة في العصر الفرعوني، ثم قادوا في مراحل تالية الثورات ضد الضرائب الباهظة التي فرضها الحكام البطالمة في النصف الثاني من العهد البطلمي، وضد الفساد الإداري الفاحش الذي أصاب البلاد، وبالفعل نجحت تلك الحركة في اقتناص احترام الحكام البطالمة للسلطة القوية للكهنة، وسعى أولئك الحكام للتقرب من المصريين بترميم وإنشاء المعابد للآلهة المحلية، ومعاملة الكهنة بالاحترام الذي اعتادوه أيام الفراعنة. وأما في فلسطين، فقد اصطدمت قوة المتشددين اليهود "الحسيديم" بالتيار المهرول نحو تقليد السادة الإغريق، ثم اصطدمت بالسلوقيين أنفسهم بدعوى إفسادهم عقيدة بني إسرائيل، ولكن كُتِبَ لتلك الحركة الفشل بسبب النزاع اليهودي - اليهودي على الحكم. نقطة توضيحية: وأنا هنا لا أقصد أن أقول إن امتزاج الشرق بالغرب لم ينتج موروثًا حضاريًا ذا قيمة، بل قد كان، ولكني فقط أعرض الجانب المعتم من ذلك الموروث، فكما أن الكثيرين مارسوا "عولمة معتدلة" حافظوا فيها على هويتهم، ومزجوها بهويات الآخرين بصورة متعقلة، فظهر طراز العمارة الجديد الذي امتزجت فيه الرقّة اليونانية بالإعجاز المصري والإبهار السوري، وازدهرت الحركة العلمية والثقافية بشكل ملموس، وكذلك الصناعة والتجارة، وانتشر نطاق التسامح مع الآخر، وتقبله والتعامل معه باعتباره "إنسانًا". الخلاصة أن تبادلاً إنسانيًا كبيرًا حدث في ذلك العالم الهيللينستي، ولكن دعونا لا ننكر أنه كان تبادلاً بين "سادة" يونانيين و"أتباع" شرقيين.. وهذه حقيقة لا تتعارض مع واقع ازدهار مختلف مظاهر الحياة في بدايات عصرَي السلوقيين في سوريا والبطالمة في مصر، ولكن السقوط المدوِّي لهاتين الدولتين بعد ذلك على يد الرومان كان من النتائج الطبيعية للتنكر لهدف الإسكندر في توحيد الشرق والغرب -بالمعنى الكامل للكلمة- في كتلة واحدة قوية، الأمر الذي لو كان قد تم لصمدت تلك المناطق كلها في وجه الغزو الروماني. والحقيقة أن المدقِّق في التاريخ البطلمي في مصر -كمثال للحضارة الهللينستية- يلاحظ أن من ساهموا حقًا بشكل إيجابي في إقامة الحضارة كانوا من المعتدلين الذين لم يبالغوا في الرفض، ولم يلهثوا في الهرولة! (يتبع) مصادر المعلومات: 1- موسوعة مصر القديمة: سليم حسن. 2- وصف مصر في نهاية القرن العشرين: د.جلال أمين. 3- اليهود في فلسطين في العصرين البطلمي والسلوقي: د.هاني عبد العزيز جوهر. 4- تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: د.عمر صابر عبد الجليل. 5- الشرق الأدنى في العصرين الهللينستي والروماني: د. أبو اليسر فرح. 6- محمد والذين معه: عبد الحميد جودة السحار. 7- اليهود واليهودية والصهيونية: د.عبد الوهاب المسيري. 8- مجتمع الإسكندرية القديم: د.محمد السيد عبد الغني. 9- العالم الهيللينستي: فرانك ولبانك. 10- An encyclopedia of world history: Willam L. LANGER 11- مصر القبطية - الأقباط يعمدون بالدم: محمود مدحت. 12- الآلهة والناس في مصر: فرانسواز دونان. 13- ديانة مصر القديمة: أدولف إرمان. اقرأ أيضاً: حرب العولمة.. أو أرمجدون الجديدة (1) حرب العولمة.. أو أرمجدون الجديدة (2)