لقد كان صابر زيادة في منتهى التشوق والإثارة.. وطوال أحداث الفيلم وهو جالس على طرف المقعد يحدق في الشاشة ولا ينتبه لأي نداء من أمه أو أخته، حتى أنه أخّر موعد نومه وهي العادة التي لم يجرؤ يوما أن يقطعها، فها هو ساهر للآن رغم أن موعد نومه قد مر عليه نصف ساعة كاملة ولكنه لا يأبه للساعة التي تشير إلى التاسعة والنصف مساءً.. ولما غلبه النوم ظل يحلم بما رآه في هذا الفيلم الأكشن الرائع الذي لم يشاهد مثله من قبل، وظل كل لحظة يتخيل نفسه على أنه البطل يسير ببطء بمعطفه الداكن وقبعته الواسعة مبتسما في ثقة.. استيقظ صابر زيادة متأخرا؛ نظرا لأنه نام متأخرا، وهرول ليلحق بعمله، وصورة البطل والفيلم الذي رآه لا تفارق مخيلته قط.. وما إن وصل حتى سأله زميله في المكتب عن سبب تأخره فتجاهل صابر زيادة سؤاله وانحنى عليه بانفعال وقال: - شفت اللي حصل في الفيلم امبارح؟ - فيلم إيه؟ -فيلم أكشن جامد جدا أحكيهولك.... وسحب صابر زيادة مقعده والتصق بزميله وظل يحكي له عن الفيلم الذي جعله يخالف كل قواعده ومسلماته.. الفيلم الذي أخذ لبه.. الفيلم الذي سحر عقله.. وظل يحكي بشغف وحماس بالغين.. كان البطل يريد أن يزرع القنبلة التي يحملها في ذلك المركز التجاري المليء بالبشر ليتسبب الانفجار في قتل أكبر عدد من الأمريكيين البسطاء.. ركب تاكسي أجرة وهو يحمل معه الحقيبة التي تحوي القنبلة، وظلت الكاميرا مسلطة على الحقيبة طوال رحلة التاكسي إلى المركز التجاري، وحين توقف التاكسي أمام المركز التجاري فتح البطل باب التاكسي في ثقة واستهتار ثم قفز منه بمعطفه الرائع، ولكن توقف لحظة وكأن شيئا ما ثبّته في مكانه.. لقد شبك المعطف الأنيق بباب التاكسي، فانقطع منه جزء يسير ثم تدخل السائق لتخليص معطف الرجل من باب التاكسي وهو يضحك في اعتذار، والبطل يقول في غضب مكتوم: تبا تبا اذهب إلى الجحيم.. بص له البطل "حتة دين" بصة.. قالها صابر زيادة وهو يمد رأسه للأمام، وعيناه تتألقان، وصاحبه يضحك بشدة من حكايته، وهو ما زاده حماسا على حماسه، وأخذ يضحك مع صاحبه ثم عاد ليكمل قصته المشوقة.. دلف البطل من الباب الزجاجي الفخم للمركز التجاري المزدحم وتلفت يمنة ويسرة، وفي أحد الأركان وضع حقيبته وفتحها ليطمئن على قنبلته، ولكن عينيه اتسعتا في شدة، وحملق في داخل الحقيبة الفارغة، ثم ضرب بيده على جبهته وقال: تبا لقد نسيت أن أضع القنبلة خاصتي في الحقيبة خاصتي.. تبا تبا.. اذهب إلى الجحيم.. أغلق البطل حقيبته في عنف ثم استدار في غضب، ونظرا لأرضية المبنى الملساء فقد انزلقت قدمه جراء استدارته فوقع على الأرض ثم قام وهو يسب ويلعن قائلا: تبا تبا.. اذهب إلى الجحيم.. خرج البطل من المبنى غاضبا مما حدث، وأشار لتاكسي قادم ليعود لإحضار قنبلته، ولكن لم يقف له أي تاكسي ظل هكذا لمدة نصف ساعة وهو يردد: تبا تبا.. اذهب إلى الجحيم.. حتى توقف أحدهم، فركب البطل في غضب واضح، وصفق الباب خلفه ثم أخذ يصرخ: آآآه؛ نظرا لأنه لم يكن جسده قد ابتعد عن الباب مسافة كافية فاصطدم به وهو يغلق بقوة، فتأوه البطل قليلا ثم كتم صوته داخله وهو يقول: تبا تبا.. اذهب إلى الجحيم.. "إنت بتقول إيه؟؟" ارتعد صابر زيادة وهو يسمع العبارة فارتد إلى الخلف فسقط المقعد به، ثم نهض بمعاونة صديقه، فرأى مديره في العمل يحملق فيه بعينين بارزتين وهو يواجهه قائلا: -من اللي يذهب إلى الجحيم هه؟؟ -مش حضرتك والله.. صباح الخير يا أفندم.. -صباح الجحيم يا أخويا.. متأخر ليه النهارده ومش قاعد على مكتبك ليه؟ -كنت باناقشه في حاجة! -حاجة إيه؟ الجحيم؟؟!! ركّز في شغلك يا أستاذ.. خرج المدير، وصابر زيادة يغمغم بكلمات لم يسمعها إلا هو وحده، وتوجه إلى مكتبه ولكنه ظل يدور ويدور ولم يَطِق، فعاد إلى زميله الذي كان قد انهمك في بعض الأوراق أمامه، فنزع صابر الأوراق من أمامه وقال له: -معلش.. عارف إنك متشوق لبقية الفيلم.. بص يا عم.. اللقطة التالية للبطل وهو يصعد إلى شقته ويتعثر في درجات السلم مما دفعه لأن يمسك "بالدرابزين" ويصعد وهو يلهث من فرط طول السلم، ويقول بنفَس متقطع: تبا تبا اذهب إلى الجحيم، ثم توقف أمام باب شقته، ووضع يده في جيبه ليخرج المفتاح، ثم تسمر في مكانه، ثم أخذ يبحث ويبحث، ولكنه لم يجد المفتاح.. ضرب البطل رأسه براحة يده، وهو يقول: تبا لقد سقط مني عندما وقعت في المركز التجاري.. تبا تبا.. اذهب إلى الجحيم.. ثم لم يجد حيلة إلا أن يكسر الباب ويقتحم الشقة، وحين صار في شقته أخذ يبحث بعجل عن القنبلة ويرفع ملاءة السرير ويفتح الدولاب.. ثم يفتح باب الحمام إلى أن وجدها في المطبخ، فابتسم قائلا: وما المانع في تناول بعض شطائر الجبن الطازجة مع قليل من الجعة.. ففتح الثلاجة فوجدها خاوية تماما، فأغلقها في عنف وهو يقول: تبا تبا اذهب إلى الجحيم.. ووضع القنبلة في الحقيبة وانطلق لتنفيذ مهمته التي ستحرج الحكومة الأمريكية كلها، وربما تدفعها لتقديم استقالتها؛ نظرا لمواقفها المتشددة مع الحكومة التي تجنّد البطل.. المهمة الدامية.. المهمة الرهيبة.. داخل المركز التجاري وفي أحد الأركان كان البطل قد وضع حقيبته؛ ليرحل عنها بسرعة ليلحق الخروج قبل أن يدوي الانفجار، وعلى بعد خطوات سمع شخصا ينادي: سيدي.. لقد نسيت حقيبتك.. نظر له البطل باندهاشة ثم بابتسامة وتلويحة بيديه واهتزازة بكتفيه أجابه: إنها ليست حقيبتي، فنظر له الرجل ثم نظر للحقيبة، وقد بدا على وجهه بعض القلق، ثم استدار البطل ليخرج وقد تغير وجهه تماما وأخذ يتمتم: تبا تبا اذهب إلى الجحيم.. وما إن بلغ الباب الخارجي للمبنى حتى سمع صافرات الإنذار تنطلق في المبنى، فهرول ناحية الخارج، ولكنه شعر بفوهة باردة تلتصق بجنبه، وأحدهم يهتف به: لا تتحرك.. الشرطة.. حاول البطل أن يخرج مسدسه من جيبه ولكنه استعصى عليه، فاكتفى بقوله المكتوم: تبا تبا اذهب إلى الجحيم.. فصرخ فيه رجل الشرطة: قلت لك توقّف.. فرفع البطل يده فجأة وضرب بها مسدس رجل الشرطة، ثم لكمه لكمة أخطأت هدفها ولكنه عاجله بأخرى، ثم استدار وأخذ يركض بعيدا، وطلقات رجال الشرطة تلاحقه ولكنه لم يُصَب من كل هذه الطلقات إلا أنه تعثر في برميل ضخم فسقط على الأرض، وهو يقول: تبا تبا اذهب إلى الجحيم.. ولكن البرميل حجز جسده عن طلقات رجال الشرطة ولكنه لما تعثر فيه سقط وسقط البرميل معه فانسكب منه سائل، فاشتمّ البطل رائحة البنزين، وسمع رجال الشرطة يهتفون: أوقفوا النار.. لا تصوّبوا نحوه.. أدرك البطل من خلال المهارات المتعددة التي.... مهارات إيه بلا وكسة.. قاطعه مديره وهو ينظر إليه نظرة نارية ثم يقول له: -مهارات إيه يا راجل.. إنت عندك مهارات.. ده إنت ما عندكش حتى بُهارات.. -لأ عندي بهارات حضرتك.. -إنت هتجيب لي الشلل.. أعمل فيك إيه؟؟ -معلش يا أفندم خلاص ما عنديش بهارات ولا أي حاجة!! -آآآآآه آآآآآآآه.. خرج المدير وهو يصرخ ويشد في شعره ويتوعد صابر زيادة بالويل والثبور وعظائم الأمور.. نظر صابر زيادة إلى زميله الذي أخذ ينظر له بشفقة ثم قال: يبدو إن أيامي هنا بقت معدودة.. لكن قبل ما أمشي هاخلّص لك الفيلم.. لا تنس أن البطل مدرب جيدا على هذه المهام القتالية، ولذلك أدرك أن رجال الشرطة لن يطلقوا الرصاص نحوه لئلا يحدث انفجار رهيب إذا اشتبكت النار مع البنزين، فهب واقفا في مواجهتهم وهو يحمل ولاعة مشتعلة في يده وينظر لهم بسخرية ويقول: - أريد سيارة مصفحة.. الآن.. وأخذ يتصفح الوجوه ثم أكمل: - بسرعة.. وإلاااا - وما رأيكم في طائرة تأخذني خارج البلاد.. - لِم لم يتحرك أحد؟؟ البنزين يشتاق كثيرا لهذه الولاعة.. هيا كانت أضواء بنادق القناصة الحمراء تخترق صدره ورأسه، ولكن أحدا لم يجرؤ على إطلاق النار عليه خوفا من الانفجار الرهيب الذي سيحدث لو سقطت الولاعة على البنزين الذي يملأ الأرض ويمتد ويمتد.. - إن لم تكن السيارة جاهزة في خلال دقيقة فعليّ وعلى أعدائي.. - سأبدأ العدّ.. أخذ البطل يضحك بهستيرية وعيناه تمتلئان بالإحساس بالنصر والفخر؛ لأن جيشا كاملا يحاصره ولكنه لا يقوى على المساس به، بل هو الذي يملي أوامره عليهم.. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان لقد أخذت نار الولاعة تخفت رويدا رويدا حتى انطفأت.. فارتفع صوت أحد رجال الشرطة: ضع يديك فوق رأسك بسرعة.. رفع البطل يديه فوق رأسه وضرب الأرض بقدمه وهو يقول: تبا تبا اذهب إلى الجحيم.. ثم لمعت عيناه وقد تذكر القنبلة التي زرعها في المبنى، بالتأكيد ستنفجر الآن وتشغل رجال الشرطة وهو ما يمكّنه من الهرب في الجلبة التي سيحدثها الانفجار، الانفجار الذي تأخر بعض الشيء ولكنه قادم لا محالة.. لذلك لم يصدر أي حركة ورجال الشرطة يتقدمون نحوه، ولما أمسكوه سمع صوتا يقول: - لقد عثرنا على القنبلة، ومن حسن الحظ.. أن الإرهابي نسي ضبط موعد التفجير.. صرخ البطل بهستيرية قائلا: - تبا تبا اذهبوا إلى الجحيم.. وفي هذه اللحظة دق جرس الهاتف، فرفع صابر زيادة السماعة ثم اضطربت حركته قليلا وهو يقول: - نعم يا أفندم.. - حاضر حاضر.. - عادي.. - لأ مش زعلان.. -هاعدي على المحاسب.. ثم أغلق والتفت إلى صاحبه وبكل حزن الدنيا قال له: أشوف وشك بخير.. ثم نهض وهو يتمتم: تبا تبا.. اذهب إلى الجحيم.. محمود الغنام التعليق: الكاتب يمتلك القدرة على الحكي، لكن النص طويل لتحقيق هدف محدد هو الفكاهة والإضحاك.. ولو انتبه الكاتب إلى اسم البطل "صابر زيادة" لكان أعطانا بعض المبررات لحالته، وكانت المفارقة سيدة الموقف، وتصبح القصة أفضل.. نحتاج أيضا إلى بعض الاهتمام باللغة. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة