منذ اندلاع الأزمة السورية، تتوالى التطوّرات على الصعيدين الداخلي والخارجي، بدءا من تظاهرات شعبية سلمية في الداخل السوري تُطالب بسقوط نظام بشار الأسد الحاكم، ثمّ تحوّلت إلى أعمال عسكرية بين معارضي النظام، والجيش النظامي السوري، مرورا بتفاعلات دولية حول تلك الأزمة بين دول تؤيّد النظام السوري، ودول تُعارضه، وأخرى تقف على الحياد -أو هكذا تبدو- ودول تنتظر التوقيت المناسب لتحقّق مصالحها من خلال هذه الأزمة، وصولا إلى حال مؤسف يعيشه الشعب السوري في انتظار نهاية تسعى كل دولة فاعلة في الأزمة لأن تصيغها بما يخدم مصالحها. ولعل أهم تطوّر في الأزمة، تلك الغارات الجوية التي شنّتها دولة الاحتلال الإسرائيلي على سوريا، والتي استهدفت بها مركزا للبحوث العلمية، ووحدات عسكرية، ومستودعات ذخيرة، وشحنة صواريخ؛ وذلك حسب ما أوردت عدة وسائل إعلام سورية ولبنانية وأمريكية، وصدّقت عليها وسائل الإعلام الإسرائيلية. بدأت أولى الغارات الإسرائيلية يوم الجمعة 3 مايو 2013 وانتهت يوم الأحد 5 مايو 2013، وأفادت التقارير الصحفية بأن الغارة الإسرائيلية الأولى على الأراضي السورية؛ استهدفت فيها شحنة أسلحة بالقرب من الحدود اللبنانية، وبعد مرور 48 ساعة على الغارة الأولى، دوت انفجارات شديدة في الساعات الأولى من يوم الأحد 6 مارس 2013 قرب مركز جمرايا الذي يعتقد مسئولون غربيون بأنه تُجرى بداخله أبحاث لتصنيع أسلحة كيميائية، كما تضمّ المنطقة السورية -التي تعرّضت للقصف الإسرائيلي- عددا من المنشآت العسكرية. ونقلت وكالة فرانس برس عن مسئول إسرائيلي بارز قوله إن الهجوم استهدف أسلحة إيرانية مرسلة إلى حزب الله، ونقلت رويترز عن مسئول استخباراتي غربي بأن الغارة استهدفت "مخازن لصواريخ الفاتح-110" الإيرانية. وفور شنّ تلك الغارات تباينت ردود الفعل الدولية، بين دول تعارض تلك الغارات وتدينها، ودول تُؤيّدها، وأخرى تقف على الحياد، إلا أن تلك الغارة وتوقيتها والتفاعلات الدولية حولها، أثارت عدة تساؤلات حول مستقبل الأزمة السورية؛ فلماذا تدخّلت إسرائيل على خط المواجهة مع سوريا بعمل عسكري قد يترتّب عليه تهديد لأمنها؟ وما هو تفسير ردود الفعل الدولية المتباينة على تلك الواقعة؟ وهل تصبّ تلك الغارات الإسرائيلية في صالح نظام الرئيس السوري بشار الأسد؟ أم تأتي دعما للمعارضة السورية؟ وما هو تأثير تلك الغارات على مسيرة الثورة السورية؟ في بداية الأزمة في مارس 2011 وعلى مدار 16 شهرا، أي حتى شهر يونيو 2012 وتل أبيب صامتة إزاء أحداث الثورة السورية، ولم يخرج أي مسئول على وسائل الإعلام بأي بيان أو تصريح يعبّر عن موقف إسرائيل من الثورة الثورية؛ سواء بالرفض أو التأييد أو حتى الحياد، ولكن خرج أوّل تصريح من الخارجية الإسرائيلية في يونيو 2012 بتعاطف إسرائيلي، تطوّر إلى حد دعوة الخارجية الإسرائيلية صراحة إلى تدخّل دولي لإسقاط النظام السوري، تحت مبرر وقف نزيف الدم المسفوح. وفي يناير 2013، قصفت طائرات حربية إسرائيلية مركز جمرايا للأبحاث العلمية العسكرية في شمال غرب دمشق، وكان ذلك أوّل تدخّل إسرائيلي مباشر في الأزمة السورية، إلا أنه لم يصدر تصريح إسرائيلي رسمي يؤكّد أو ينفي ذلك القصف، ولكن وسائل الإعلام الإسرائيلية أكّدت أن إسرائيل هي التي قصفت مركز جمرايا، وأكّدت الخارجية السورية وقتها قصف إسرائيل للمركز العلمي السوري، لكن المعارضة السورية وقتها قالت إن الطائرات الحربية استهدفت قافلة كانت تحمل أسلحة في طريقها من سوريا إلى لبنان، ويبدو أنها كانت في طريقها لحزب الله، وأكّدت المعارضة حينها أنهم هم الذين هاجموا جمرايا بقذائف المورتر، وليس إسرائيل. وبدأت إسرائيل منذ يناير 2013 في إعلان قلقها من استخدام النظام السوري للأسلحة الكيمائية، أو تصديرها لحزب الله، وأعلنت استعدادها لاستخدام القوة لمنع وصول أسلحة سورية متطوّرة لجماعات متشدّدة من بينها حزب الله اللبناني. إلى أن جاء التطوّر الأخير للموقف الإسرائيلي إزاء الأزمة السورية، بقصفها على يومين متواليين مواقع على الحدود السورية اللبنانية، ومركز الأبحاث السورية جمرايا شمال غرب دمشق، وتحسّبا لرد محتمل على الهجوم، نشرت إسرائيل بالفعل بطاريتي صواريخ ضمن نظام القبة الحديدية الدفاعي بالقرب من حيفا المتاخمة للحدود اللبنانية. ويعتبر التطوّر الأخير بمثابة تصعيد خطير في انخراط إسرائيل في الأزمة السورية، ويجدر هنا لتفسير ذلك التحرّك الإسرائيلي فهم الخطوط الحمراء للأمن القومي الإسرائيلي، وهي: - المساس بأي من أراضيها المحتلة؛ ومن ضمنها هضبة الجولان السورية المحتلة. - نقل السلاح الكيميائي الذي تمتلكه سوريا إلى حزب الله، بما يعني تقوية تلك الحركة المسلحة التي تدرجها إسرائيل في قائمة المهدّدين لبقاء الدولة العبرية. - وصول أي سلاح لحركات المقاومة في غزة؛ وعلى رأسها حركة حماس. بالتالي.. فإن القصف الإسرائيلي للأراضي السورية أرادت به توجيه عدة رسائل واضحة إلى الفاعلين الدوليين في الأزمة السورية: الرسالة الأولى للنظام السوري، ومفادها: أن نقل الأسلحة إلى حزب الله خط أحمر لا يمكن أن تسمح به، وأنها مستعدة لتكرار الضربة إن اقتضت الحاجة، ولا يقتصر التهديد على نقل الأسلحة الكيمائية فقط، بل يتعدّاه إلى نقل الأسلحة الصاروخية أرض-أرض أو صواريخ أرض-جو. الرسالة الثانية إلى المعارضة السورية، وهي: أن إسرائيل سوف تضرب عندما ترى ضرورة في ذلك، وأنها لن تسمح بتحول الحدود الهادئة منذ نحو أربعة عقود إلى مشكلة أمنية لها؛ خصوصا أن هناك مجموعات معارضة مسلحة باتت على بعد كيلومترات عن حدودها. ورغم اقتناع إسرائيل بأن سقوط نظام الرئيس بشار الأسد سيأتي على الدولة العبرية بالنفع بتفكيك محور إيران -سورية- حزب الله، ويشكّل ضربة قوية لإيران لأنها تفقد بذلك حليفا قويا؛ فإنها لا تريد أن يكون بديل نظام الأسد نظاما أكثر تشدّدا كتلك الجماعات الجهادية التي تظهر بقوة على خط المواجهة مع النظام السوري الحاكم؛ وعلى رأسه "جيش النصرة" قريب الصلة من تنظيم القاعدة، ولا تريد أن يكون البديل أيضا جماعة الإخوان المسلمين التي ستسعى ربما بقوة نحو استعادة الجولان إذا ما تولّت زمام الحكم خلفا لبشار الأسد، وربما تكون أقوى من الأسد في دعم حركة حماس في غزة التي تُعدّ امتدادا للإخوان في فلسطين. فإسرائيل إذن تريد ربما بديلا لبشار الأسد، يشبه ذلك النظام الفلسطيني الحاكم بقيادة أبو مازن، يسعى للمفاوضات مع إسرائيل في الأمور العالقة -وهي المفاوضات التي لا تنتهي أبدا- كما يعد حينها نظاما مسالما لا يسعه للدخول في أي عمل مسلح يهدّد أمن إسرائيل. الرسالة الثالثة إلى إيران وحزب الله، ومفادها: أن دخول إيران وحزب الله على خط المواجهة في الأزمة السورية دعما وتأييدا لنظام الأسد، لن يحول دون وصول إسرائيل إلى الأعماق السورية، وإثبات عدم قدرة حزب الله على رد شامل بسبب تعقيدات الأوضاع الداخلية في لبنان وقرب الانتخابات، وأن تل أبيب مستعدّة لمواجهته، ولن تتوانى عن توجيه ضربة له في حال تلقّيه أسلحة من سوريا أو أي محاولة من قبل الحزب على توجيه ضربة إلى الأراضي الإسرائيلية دفاعا عن إيران أو لخلط الأوراق في حال اقتراب سقوط النظام في سوريا. الرسالة الرابعة إلى المجتمع الدولي، وهي: أن الجيش السوري أصبح أكثر ضعفا؛ بحيث عجز دفاعه الجوي وعلى مدار ثلاثة أيام من صد هجوم جوي بالطائرات والصواريخ على مواقع استراتيجية داخل العمق السوري، بالتالي فإن التدخل الدولي في هذا التوقيت لإنهاء الأزمة السورية بشكل يحقق مصالح الدول العظمى بات أمرا سهلا للغاية وأقل تكلفة من ذي قبل. الرسالة الخامسة إلى الداخل الإسرائيلي، وهي رسالة طمأنة، ومفادها: أن إسرائيل باتت أكثر قناعة بقرب سقوط نظام الرئيس الأسد، ولهذا رغبت في توجيه رسائل إلى جميع الأطراف المعنية وباشرت في عملية تحصين نفسها من حالة حدوث انفلات أمني على الحدود قبل سقوط الأسد أو في اليوم التالي لانهيار النظام، عبر الغارة الجوية ونشر منظومات الدفاع الصاروخي "القبة الحديدية" في الشمال، وإعادة زرع الألغام، وبناء جدار أمني على طول الحدود. الخلاصة.. أن الغارات الإسرائيلية على سوريا أحدثت تغيّرا في شكل مستقبل الأزمة السورية، فكلٌ من النظام السوري الحاكم والمعارضة يحاولان استغلال الغارات الإسرائيلية لصالحه، فالنظام السوري يريد أن يثبت للداخل والمجتمع العربي والإسلامي المعارض له أن المعارضة تدعمها إسرائيل، وأن هناك تنسيقا بينهما. بينما تستغل المعارضة السورية انشغال النظام السوري بالرد أو بحث الرد على الغارات الإسرائيلية، بشنّ المزيد من عملياتها المستمرة ضد الجيش السوري، الذي أثبتت تلك الغارات عجزه عن المواجهة. كما أن اكتفاء كل من حزب الله وإيران بالتنديد بالغارات الإسرائيلية، دون القيام بأي خطوات عملية، يؤكّد رفضهما بفتح أي جبهة عسكرية مع إسرائيل، وهو ما يؤكّده التحرك الإيراني في دول المنطقة -ومن بينها مصر- للبحث عن حليف بديل عن سوريا. مما سبق يمكن توقّع السيناريوهات المستقبلية للأزمة السورية عبر النقاط التالية: - إعادة بحث التدخّل العسكري من قبل الدول العظمي؛ وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية عن طريق مجلس الأمن وحلف الناتو، بعدما أثبتت أن التدخّل بات سهلا، خصوصا مع استمرار المساعي الدبلوماسية الأمريكية في إقناع كل من روسيا والصين -المعارضتين للتدخل العسكري الخارجي في سوريا- بأن هذا التدخّل سيأتي في إطار تعاون وثيق لمكافحة الإرهاب، خصوصا مع ظهور تنظيم القاعدة وفروعه على خط المواجهة مع المعارضة السورية المسلّحة، ضد نظام بشار الأسد. - تسعى مصر -بكل قوتها الدبلوماسية- إلى منع تكرار أزمة ليبيا، وربما يفسّر ذلك سرعة توجّه وزير الدفاع إلى تركيا بعد ساعات من الغارات الإسرائيلية، لبحث تطورات الأزمة السورية مع نظيره التركي. - محاولات دفع إيران وحزب الله للنظام السوري لإجراء حوار فوري وبلا شروط مسبقة مع المعارضة المسلحة، ومحاولة إقناع بشار الأسد بطرح مبادرة مثيلة للمبادرة الخليجية في اليمن، بأن يتنازل عن الحكم لأحد مساعديه أو شخصية عامة توافقية لحين إجراء انتخابات مبكرة. - اختراق المعارضة السورية للمزيد من المواقع العسكرية للجيش السوري، وتوجيه المزيد من ضربات لإضعاف النظام السوري للاقتراب من الحسم، بدعم من عدد من الدول العربية والإسلامية مثل مصر وقطر والسعودية وتركيا، والإسراع في ذلك قبل إقدام الدول الغربية على التدخل، وربما هذا السيناريو هو الأقرب للتحقيق. وختاما.. فإن الغارة الإسرائيلية على سوريا على المستوى الإسرائيلي لم تكن الأولى، ولا يتوقّع أن تكون الأخيرة؛ فهي الثانية خلال الأزمة السورية، والرابعة إذا ما احتسبنا الغارتين اللتين شنّتا على المنشأة العلمية في دير الزور بذريعة أنها منشأة نووية، وعلى مركز للتدريب تابع للقيادة العامة في بلدة عين الصاحب، لإيصال رسائلها بعدم الاقتراب من أمنها القومي. فعلى المستوى السوري، سيقف رد النظام عند مجرد التصريحات تماما كما سبق؛ فالعاجز عن سرعة الصد، يعجز عن سرعة الهجوم أو المواجهة، كما هو راسخ في القواعد العسكرية. وعلى المستوى العربي والإسلامي، سيتمّ الدفع بالمزيد من الدعم المعنوي واللوجستي للمعارضة السورية المسلحة للإسراع من الحسم. وعلى المستوى الدولي، سيدخل الأمر حيّز الدراسة والانتظار، فالدخول على خط المواجهة المسلحة المباشرة مخاطره أكثر من مكاسبه، فلا يأمن الغرب رد إيران وحزب الله، حتى ولو كانت كل التقديرات تشير عكس ذلك، كما أن التكلفة الاقتصادية تجعل كل دولة تتردّد قبل الإقدام على خطوة التدخل العسكري وتنتظر لربما تشهد الأزمة تطوّرا يأتي في مصلحتها دون خسارة.