فيما يسمى بظاهرة ال"باريدوليا"، رأى البعض وجه قرد في جزع شجرة، مما أدى بهم الحال لتقديم الولاء للإله القرد بعد أن اعتقدوا في ألوهيته، حيث اعتبروا ظهور صورته على الشجرة دليلا على قدراته ومعجزاته! غير أن الأمر في حقيقته كان مجرد صورة غير واضحة المعالم فسرها البعض أنها قرد بناء على حالتهم النفسية، ورآها البعض الأخر بشكل مختلف، حيث تتحكم الأهواء والظنون والرغبات في رؤية الأشكال المبهمة بطرق وتصورات متباينة، تختلف من شخص لآخر، مثل تخيل صور للحيوانات في السحاب, ورؤية وجه رجل في سطح القمر, أو رؤية لفظ الجلالة والسيد المسيح والسيدة العذراء وغير ذلك من الأمثلة، وهي ظاهرة أشعر أنها خلقت لتنطبق تماما على الشعب المصري في تلك المرحلة الحرجة التي نحياها حاليا. الكل يرى الصورة بطريقته فيفسر ما بدا أمام عينيه حسب خيالاته وظنونه وحالته النفسية، وينسج التصورات والفرضيات وكأنها مسلمات لا تقبل الجدل أو النقاش، لتكون النتيجة أننا وصلنا في النهايات لقناعات ثابتة لا تتغير بالنقاش حتى وإن أتي الخصم بحجة قوية ودليل دامغ، بعد أن تعمدنا تغييب العقل والمنطق، واكتفينا بإتباع الهوى والظن. جميعنا يعاني من ال"باريدوليا"، والفرق فقط في درجة سيطرة تلك الظاهرة على رؤيته، ما بين مصاب بها "على خفيف" ومن وصل إلى حالة متأخرة، بينما يبقى الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر فقط أن يشغل عقله، ويعود إلى صوابه، ويجرب أن يتخلى عن انتماءاته وقناعاته ويضع نفسه في موضع الآخرين ليرى الصورة مكتملة، وليس من زاوية واحدة. صارت الدعوات للكراهية والحرب والتفتيش في النوايا ومصادرة الآراء أكبر من دعوات التوحد والمطالبة بالبناء والتآخي ونشر المحبة والخير والتعاون، بينما يقول الدين: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. ربما صار كلامي السابق مكررا لك وتردد على مسامعك كثيرا، لكن جرب أن تربطه بما حدث مع أسلافنا القدماء لتعرف كيف يعيد التاريخ نفسه ومع ذلك ما زال البشر يقعون في نفس الأخطاء. فقد باع جورج هاريشن من جنوب أفريقيا مزرعته إلى شركة تنقيب بما يعادل عشر جنيهات فقط لعدم صلاحيتها للزراعة، وحين شرعت الشركة في استغلالها، اكتشفت بها أكبر منجم للذهب على الإطلاق، وأصبح بعدها هذا المنجم مسئولا عن 70% من إنتاج الذهب في العالم، حيث لم يقدر ذلك المزارع ما يملك جيدا فباعه بثمن بخس وخسر مكاسب طائلة كان من الممكن أن يجنيها بمزيد من الصبر والاجتهاد. وفي معركة "بلاط الشهداء".. قرب "بواتييه" في فرنسا، تقدم المسلمون وكادوا أن يفتحوا أوروبا، خصوصا أن النصر كان قاب قوسين أو أدنى منهم، بعد أن استمر القتال 3 أيام سجل المسلمون فيها التقدم والتمكن، لكنهم كرروا نفس الخطأ القاتل في معركة أحد؛ وتراجعوا لحماية غنائمهم من جيش شارلمان، فتمت مهاجمتهم من الخلف وحدث شرخ في البناء العسكري للجيش الإسلامي، فانهار البناء واستشهد القائد المجاهد عبد الرحمن الغافقي، وتراجع الجيش تحت جنح الظلام, فكانت تلك المعركة نقطة تحول وتوقف في المد الإسلامي آنذاك بحيث أطلق عليها الغرب معركة "تورا" التي اعتزوا بها لأنها منعت سيطرة المسلمين على فرنسا يوم ذاك، وتوقف على إثرها الزحف الإسلامي على كامل أوروبا. ويقول أحد المؤرخين الإنجليز عنها: "لو لم يهزم العرب في بواتييه، لرأيتم القرآن يُتلى ويُفسر في كامبريدج وأكسفورد". وما زال التاريخ يكرر نفسه بيننا، وتعاد أحداث الأمس فينا، ليصبح اليوم أشبه بالبارحة، لكننا مازلنا غارقين في ظاهرة ال" باريدوليا" حيث بتنا عبيدا لأهوائنا وظنوننا، دون أن نعي الدرس ونستفيد من أخطاء الماضي! اقرأوا التاريخ مجددا، وعالجوا أنفسكم من ال"باريدوليا" يرحمكم الله.