من بين كمّ البرامج الدينية المعروضة على مختلف فضائيات رمضان هذه الأيام، لا أتابع سوى برنامج خواطر أحمد الشقيري عن اليابان، والذي قد لا يعتبره البعض برنامجاً دينياً، رغم أنه برنامج ديني أكثر من برامج أخرى تحاول إقناعنا بتدينها! ومن قبله برنامج الموعظة الحسنة، وضيفه المعتاد الأستاذ الدكتور مبروك عطية.. الأستاذ بجامعة الأزهر.. ليس لخفة دمه، وتعليقاته الظريفة الذكية، وليس لأناقته وابتسامته المراوغة، وليس لدواليب علمه التي يتحفنا منها كل يوم بقبس من نور، وبالتأكيد ليس للمذيعة التي تستضيفه!
ما يميز الرجل عن غيره كثيرين هو أنه "فاهم"..
والفهم في رأيي يحتوي المعرفة ولا يقتصر عليها.. الفهم معرفة أولا، وعلم بأحوال السائلين، وخبرات حياتية تمكّن من تعرف التفاصيل التي ربما لا تقال، وقراءة ما بين السطور، ووضع الافتراضات المنطقية، والتي لا تكون دائماً في صالح السائل..
وما زلت أذكر له إجابتين عن سؤالين مختلفين، أعتقد أنهما كانا في حلقة واحدة.. الأول لسائلة تسأل عن حكم صلاتها في غرفة من بيتها تحوي صوراً لأفراد العائلة.. أجابها بالنص: مفيش أي حرمة لأي صورة إلا صورة باصحى الصبح أقف قدامها أتلو التراتيل وأمارس طقوس العبادة..
هكذا.. بهذه البساطة والمباشرة والمنطق والعقل، ودون مزيد ثرثرة وأقوال الشيخ الفلاني والإمام العلاني، ودون حاجة لاستشهاد من كتاب وسنة؛ لأن الموضوع فعلاً بهذه البساطة..
طبعاً لا داعي لأن أذكّر حضراتكم بأن موضوعاً كالصور والتماثيل كُتبت فيه مؤلفات ومراجع، واختلف فيه فقهاء وأئمة، بينما هو لا يستدعي سوى بعض معرفة وبعض فهم وبعض منطق..
السؤال الثاني كان لزوجة تحب زوجها، وتعتبره رجلاً عظيماً، لكن مشكلتها أنها لا تنجب، وتسأل إذا كان حراماً أن تسأله الطلاق إن قرر أن يتزوج عليها طلباً للذرية..
وكانت الإجابة عليها بذات البساطة.. قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} وإذن فالهدف الأساسي للزواج هو السكن والمودة والرحمة، ثم تأتي الذرية "نافلة"، وإذا كان الرجل قد وعدها بأنه لن يتزوج عليها فلم تبحث عما يسميه هو "منغّصات النعم"؟!..
طبعاً لو كان السؤال ذاته قد سُئل لواحد من المشايخ إياهم، لكانت الإجابة بأن الذرية هي المطلب من وراء الزواج، وإنما شرع الزواج لحفظ النسل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بزواج الودود الولود لأنه مُكاثر بنا الأمم يوم القيامة، وكأن هذين الزوجين هما من سيُنقصان ذرية المسلمين بعجز الزوجة عن الإنجاب، وكأن غثاء السيل الذي نحن فيه بحاجة للمزيد..
الغريب، ما تذكرته أثناء كتابتي هذه السطور، وهو أن أئمتنا وعلماءنا القدامى، لم يشغلوا أنفسهم لحظة بتلك التفاصيل "الغبية" -واسمحوا لي أن أقولها- وقد عدت بذاكرتي لدراستي مادة الفقه سبع سنوات في المرحلة الإعدادية والثانوية الأزهرية، وكنت أدرس على مذهب الإمام مالك، وعلى كتاب الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، ولم نجد فيه مجالاً لكل تلك التفاصيل التي تدور حولها كل الدروس والمواعظ والبرامج والكتابات والكتيبات التي تباع بخمسين قرشاً للواحد منها!
لم نجد فيه باباً في أحكام (حجاب ولّا نقاب)، ولا فصلاً للحية والجلباب، ولا مسائل في الصور والتماثيل، ولكن كانت هناك عبادات ومعاملات، وقواعد تحكم علاقة الدولة بمحكوميها، وبغيرها من الدول، وطبعاً لا داعي للتأكيد على أن هذه القواعد هي آخر ما يمكن لهؤلاء المشايخ أن يتحدثوا عنه أو يفتوا فيه..
كانت هناك أسس تحكم الفقهاء، تبدأ بالتيسير، والعدالة والمساواة، ولا تنتهي عند تحقيق مصالح الناس، المختلفة باختلاف زمانهم ومكانهم، فلم يكن كل ما نقل عن السابقين مقدساً غير قابل للنقاش، ومن أفضل من جيل الصحابة، الذي أخذ بعض الفقهاء بأقوالهم، ورفضها البعض؛ لأنه كانت هناك أساليب للحكم والاعتبار، ومناهج في البحث والدراسة واستخلاص الأحكام، وليس مجرد النقل غير المعتمد على فهم لا للنص المنقول، ولا لأحوال الناس..
ولكن يا سادة هذه هي طبيعة العصر الذي نحياه، وفي دورة حياة الأمة، كانت هناك دائماً فترات ازدهار، ينبغ فيها المجددون، ويعلو صوت المستنيرين، وفترات ضعف وتقزّم، يجد فيها المتجمدون لهم مكاناً ومنبراً، ولا يخفى على أحد أن الازدهار والجمود متعلقان بحال الأمة ذاتها، إن كانت في الركب، أم أنها تحاول اللحاق بالأذناب..