منذ أكثر من 140 عاما تمّ حفر قناة السويس بطريقة اعْتُبرت تاريخ أمة وملحمة شعب؛ فلقد حُفِرت القناة بأيدٍ مصرية كلّفت أجدادنا من الذين حفروها دماءهم وأرواحهم؛ حيث قاموا بحفرها بآلات في قمة البدائية، واستمرّ الحفر عشر سنوات، ومات أعداد غفيرة من المصريين خلال الحفر بسبب السخرة والأوبئة. واليوم.. يُثار الكثير من الجدل حول القناة والمشروعات التي ستُقام عليها، وهكذا فحقا علينا أن نعرف في البداية القليل من المعلومات عن أهم قناة في العالم. هذه القناة قلبت موازين الحياة ليس في مصر فقط، بل في العالم أجمع؛ حيث كانت السفن تمرّ عبر طريق رأس الرجاء الصالح لتعاني من وعورة الطريق وطوله، كما كانت تعاني السفن التجارية من القراصنة الذين ينهبون التجارة المارّة من هذا الطريق. وهكذا كان من المنتظر أن ينتعش الاقتصاد المصري بسبب القناة، لولا أن معظم إيراداتها كان يصبّ في خزانة إنجلترا حتى تمّ تأميم شركة القناة عام 1956 على يد جمال عبد الناصر. ومن يومها وإيراد القناة -الذي وصل في عام 2010 إلى نحو 4,8 مليار دولار- هو الحائط الثابت الذي تتكئ عليه مصر في اقتصادها. وتُعتبر قناة السويس أهم مجرى ملاحي في العالم؛ حيث تتحكّم في 40% من حركة السفن والحاويات في العالم، وكذلك لربطها بين دول جنوب شرق آسيا وأوروبا والأمريكتين. وهي الأولى على ثلاثة وعشرين قناة ملاحية على مستوى العالم أجمع، كما أنها أقدم قناة في العالم؛ فقد تمّ افتتاحها عام 1869، علاوةً على مواصفتها التقنية التي تجعلها هي الأولى على كل قنوات العالم، كما أن طولها يقع في المرتبة الثانية على مستوى قنوات العالم، ويصل متوسّط حركة البضائع في القناة إلى 312 مليون طن سنويا. كل هذا يقودنا للحديث عن المشروع الذي هبط علينا فجأة بغير مُقدّمات، وهو مشروع حفر قناة جديدة موازية لقناة السويس، والذي يُقال عنه إنه سوف ينقل مصر نقلةً حضارية واقتصادية غير مسبوقة. فإن كانت قناة السويس الحالية لا تمرّ بها إلا سفينة واحدة، ورغم ذلك فقد زادت أهمية مصر منذ حفرها؛ فما بالكم لو حُفرت بجانبها قناة جديدة من 500 م : 1000 تجعل السفن تمرّ ذهابا وإيابا في نفس الوقت، بالإضافة إلى المشروعات الأخرى التي ستتمّ على هامش المشروع. هذا المشروع الذي بدأ يتردّد على لسان الساسة والاقتصاديين؛ خصوصا بعد التطوّر الرهيب في معدّات وآلات الحفر، والذي يقولون إنه لن يستغرق أكثر من عام واحد، ولن يتكلّف أكثر من 10 : 15 مليار دولار؛ فماذا سوف يصنع في مستقبل مصر؟ حسب ما يروّج للمشروع؛ فإنه سوف يُضاعف إيراد القناة إلى 100 مليار دولار سنويا، علاوة على استصلاح وزراعة 4 ملايين فدان، ضِف إلى ذلك ما يترتّب عليه من مشروعات عمرانية سوف تعمل على تقدّمنا، وسيحوّل مصر إلى مركز عالمي لحركة التجارة. فالمنطقة بين القناتين سوف تصبح منطقة جذب استثماري وسياحي للكثير من الدول، كما سينشأ بها نشاط اقتصادي، وستعمل على تنشيط مدن القناة (السويس، بورسعيد، الإسماعيلية). يُضيف المتفائلون بالمشروع أنه سيكون النواة الأولى لتنشيط سيناء، ويقطع خط الرجعة على مخططات إسرائيل الطامعة بها. والحقيقة أن مشروع كهذا بهذه الضخامة وهذه الفوائد التي ستعمّ على الواقع المصري بهذا الشكل، من العجيب أن يبقى مجرّد حديث على لسان صحفيين متحمّسين، أو نشطاء ينتمون لتيارات الإسلام السياسي عبر شبكات التواصل الاجتماعي. فإذا كان المشروع قائما حقا وتجري دراسته بالفعل، والحكومة بدأت في السعي إليه فعلا وليس مجرّد حديث لتحسين صورة النظام؛ فإن مشروع بهذه الضخامة سوف يحمل الكثير والكثير لمصر والمصريين، وربما يكون هو المشروع القومي الذي تحتاجه مصر في هذه الفترة الحرجة حتى يلتفّ حوله جميع المصريين؛ فقد التففنا في عهد عبد الناصر حول مشروع السد العالي، وفي عهد السادات كانت حرب أكتوبر هي شغلنا الشاغل. ألا يستحقّ مشروع كهذا أن يخرج إلينا مسئول ليُوضّح أبعاده؟؟ ويرد على التساؤلات التي انتشرت حول تمويل المشروع، وما المقابل الذي يأخذه مَن يساهم في التمويل حول هوية المشروع، وهل نحن بالفعل نقترب من تنفيذه أم إنها مجرّد شائعات؟ إن انتشار أقاويل عن أحد أهم منشآت الدولة أمر لا يحتاج إلى هذا الصمت، بل يجب توضيح كل نقطة حول المشروع وحول ما يُثار حوله. فإذا كانت الحكومة الحالية تتعامل مع كل ملفات الدولة بتكاسل وعدم شفافية؛ فهل يلحق بهذه الملفات ملف مهم كتطوير القناة؟ أم يستغلّ النظام هذه الفرصة لصالح البلاد ولو مرة واحدة من تولّي الحكم، ويقوم بعمل شيء حقيقي كما يقول؟ مع الأسف.. مع تجاربنا طوال أكثر من 6 أشهر مضت، نجد أنفسنا مع كل ما يُروّج للمشروع نقول "أفلح إنْ صدق".