كان من عادة صديقي أحمد "الزملكاوي الأصيل" يصلّي قبل كل مباراة تجمع بين فريقه الذي يعشقه الزمالك وغريمه اللدود الأهلي، ثم يدعو دعاء الخاشع المستكين أن ينزل الله غضبه ومقته على الفريق الأحمر، ويرتجل في دعائه بكلمات تهدر في حماسة: "اللهم عليك بوائل جمعة" و"اللهم شدّا عضليا لا يفارق محمد شوقي"، و"اللهم أرسل جنودك من الفيروسات فتردي شريف إكرامي فلا يغادر فراشه أبدا"، ثم يأخذ نَفسا عميقا، ويخصّ أبو تريكة بأقسى وأشدّ دعواته قائلا: "اللهمّ ارزقه إصابة في الرباط الصليبي لا يرى بعدها أرض الملعب ثانية"! ثم تكون المباراة، وما إن تنتهي حتى يبيت صديقي ليلة أخرى عصيبة يخيّم عليها الحزن والهزيمة.. كنت أظنّ أحمد في تطرّفه بدعا من أمره، حتى وجدت أن كل جمهور الكرة يسعد بعثرات وكبوات فريق الخصم ويهلّل لها، وتعلّمت حينها أن الإصابة التي تطال المعسكر الآخر هي نقطة قوة وهدية يُهديها القدر لهم، وأن انتظار الأخبار السيئة عن معسكر الخصم أمر محبب لجمهور كرة القدم. ثم توقّف النشاط الكروي وبدأ النشاط السياسي، ودّع صديقي أحمد قناتي "مودرن سبورت" و"الحياة الرياضية"، وبدأ عصر "cbc" و"النهار" و"الجزيرة مباشر مصر"، وإذا بأحمد ينقلب مشجّعا سياسيا من الطراز الأول، فيتحمّس لخطبة هذا، ويصبّ جم لعناته على الحزب ذاك، ويبيت لياليه يفكّر في الخطة التي سيُواجه بها فلان مكائد وتدابير علان. حلّت لميس الحديدي مكان خالد الغندور، وأخذ عمرو أديب موقع أحمد شوبير، وصار مجدي الجلاد هو مدحت شلبي الجديد. بدا الأمر ممتعا ومشوّقا في البداية، نسمات الثورة كانت تهبّ علينا فتُنعشنا، وتحيي فينا نشاطا تجاه الوطن في مجالات جدية ومهمة بعدما كانت متوقّفة على مباريات كرة القدم، وصارت الأهداف التي نتمنّى تحقيقها تتعدّى بكثير مجرّد هز الشباك والتهليل في المدرجات. ثم تحوّلت نسمات الثورة الرقيقة إلى ريح عاتية، وتحوّل معها صديقي أحمد.. صار تشجيعه السياسي لا ينفصل عن تشجيعه الكروي، كلاهما قائمان على استراتيجية واحدة وهي تمنّي الخسارة للخصم، وانتظار وقوعه وتعثّره، بل والأدهى من ذلك أنه بات يشجّع مَن يضع العراقيل أمام خصومه السياسيين، حتى وإن خلا هذا الأمر من نوازع الشرف ومفردات الرجولة ودواعي المنافسة المحترمة. يرفض أحمد بشدة أن يتفهّم أن خسارة الكرة تختلف عن خسارة السياسة، والتنافس على أرض الملعب غير التنافس على أرض الوطن.. إنه يؤمن أن الخاسر يُقابله فائز؛ فإمّا أن يكون الأول أو يكون الثاني، ولا ينتبه إلى أن الوطن لا يعرف تلك المعادلة؛ ففي حب الوطن إمّا أن نربح جميعا أو نخسر جميعا. يُؤمن صاحبي أن هز شباك الخصم هو النصر الأكيد، وإلحاق الهزيمة الثقيلة به هو السبيل لكسر عينه وأنفه، ولا ينتبه إلى أن هذا لو حدث في مضمار السياسة ستنكسر معه أشياء ربما لا يمكن تعويضها؛ حيث المنافسة والتدافع هما السبيل الأول والأهم لرفعة الأوطان ورقيها وعلوّ شأنها، وأنه كلما كان منافسك قويا كان هذا فضلا لك وأصلح لوطنك. بالأمس زرت صديقي أحمد؛ فوجدته يتهيّأ لسماع خطاب أحد السياسيين، وضع أمامه كل ما يمكن أن يوفّر له مُشاهدة ممتعة من طعام وشراب، وأخذ يستمع إلى الخطاب الحماسي، وبعدها راح يُقلّب في جميع القنوات حتى يروي ظمأه بالحصة الأكبر من التحليلات والمداخلات الهاتفية، كان يستمع إلى المحلل السياسي فكأني به يقول "يلا بقى اديها له في المقص"، ثم وهو يستمع إلى رد أحد المنتمين إلى التيار الذي يميل له؛ فيهتف بسرور "الله عليك يا لعيب"!، ثم وهو يغلق التلفاز بعدما انتصف الليل قائلا في تثاؤب "البلد دي عاوزة كوتش من بره". ينام صديقي أحمد بينما الوطن ساهر؛ حيث المباريات التي تدور وتمتع الجمهور، تُلعب على جسده وجراحه وآلامه. يبقى الوطن وحده حزينا مهموما غاضبا.. بينما أبناؤه يلعبون..