لا يمكن لمصري واحد أن ينكر وطنية ناديي الأهلي والمصري.. وإن حدث أن أنكر ناكر، لجهل أو مرض أو غرض، فما أسرع ما يأتيه الدحض والتصويب من سجلات التاريخ قبل سجلات الناديين، فكلاهما نشأ في معامع النضال من أجل حرية مصر واستقلالها وكرامتها. ناديان هذا هو حالهما أما كان التوافق أجدي لهما من التنافر والتواد أفضل من التناحر؟.. إن قيام المجزرة الرهيبة التي شهدها ستاد بورسعيد الرياضي في الأول من قبراير 2012م. هذه المجزرة المريعة التي أزهقت فيها أرواح أكثر من سبعين مشجعاً وأصيب فيها المئات، لهي الدليل الأوفي علي وجود خروقات جسيمة في شبكة العلاقات التي تربط بين الناديين.. خروقات يسرت للمتآمرين والمجرمين القتلة النفاذ منها للقتل والإفلات .. لماذا آل الحال بينهما إلي ما آلت إليه؟.. وما الأسباب التي أدت إلي تعميق المشاعر الفظة بين جمهوريهما؟.. الأهلي.. الأسطورة خرج النادي الأهلي ولا أصفه بغير الأسطوري إلي الوجود من قلب نيران الفورة الوطنية المصرية التي قادها الزعيم مصطفي كامل، إذ تأسس في العام 1907م. بعد عامين من تأسيس نادي طلبة المدارس العليا في العام 1905م. بناء علي فكرة روج لها الوطني الكبير عمر لطفي، وإذا كان الإنجليزي مستر ميشل أنس هو أول رئيس لمجلس إدارته، بحكم الظروف التي كانت تكتنف مصر وقتها، فقد كان الزعيم سعد زغلول ناظر المعارف وقتها هو أول رئيس لجمعية النادي العمومية، وكان هذا أيضاً في نفس العام، أي في العام 1907م. عام الميلاد والنشأة. اسم النادي ذاته دال قوي وإعلان صريح علي وطنيته، كذلك حمرة لون فانلاته المستمد من لون علم مصر وقتها (1911م.). ويذكر التاريخ أنه بعد ثورة يوليو 1952م. بنحو ثلاث سنوات، وبالتحديد في 17 يناير 1956م. عام تأميم قناة السويس ومقاومة العدوان الثلاثي قبل الرئيس جمال عبدالناصر الرئاسة الشرفية التي اقترحها مجلس إدارة النادي في 4 نوفمبر 1955م. للنادي، وذلك تقديراً منه للدور الوطني الذي لعبه في مساندة الثورة وتدريب الفدائيين. وتذكر سجلات النادي الأهلي أن مجلس إدارته قد اتخذ في اجتماعه المؤرخ 11 أكتوبر 1967م عام الهزيمة العسكرية عدداً من القرارات من بينها: فرض التدريب العسكري علي جميع الأعضاء الرياضيين بالنادي، وحث الأعضاء علي التطوع في أعمال المقاومة الشعبية التي تتولاها الجهات المسئولة في البلاد، والعضوات الرياضيات علي التطوع في أعمال التمريض وغيرها من الأعمال التي يمكن أن يقمن بها في ميدان العمل الوطني، وذلك بالنسبة لمن هن في السن من 20 حتي 40 سنة، كما تذكر هذه السجلات قيام النادي بجمع التبرعات من أعضائه وجمهور مشجعيه لصالح المجهود الحربي. نفس الأمر تكرر وإن بصيغ وصور أخري خلال حرب أكتوبر 1973م. فمع فتج باب التطوع والانضمام لقوات الدفاع المدني تبرع الأعضاء والمشجعون بدمائهم فضلاً علي التبرع المادي الذي حدده مجلس الإدارة بجنيه من العضو العامل أو المنتسب،50 قرشا من العضو الجامعي و25 قرشًا من العضو الرياضي درجة أولي، وجنيه من المدرب تشكيل لجنة للإشراف علي التطوع للدفاع المدني وعلي جميع مجالات المساهمة في الدفاع وكل ما يتعلق بالمعارك الحربية. المصري الوطني لا يستطيع منكر أو مكابر أو مزايد أن يجحد علي النادي المصري وطنيته، فإزاء احتكار الأجانب للعبة كرة القدم، لعب الوطنيون من أبناء بورسعيد مبارياتهم الخاصة بهم علي حواف المستنقعات وعلي شاطئ البحر وداخل حوش الجبانة وفي الشوارع المرصوفة بتراب الفحم (قبل استخدام الأسفلت في عمليات الرصف)، في حين تمتع الأجانب بأنديتهم وملاعبهم المؤهلة، بمقاييس ذلك الوقت، تأهيلاً حقيقياَ يتيح لفرقهم أداء مباريات حقيقية، الواقع الرياضي كان شديد الإيلام للكرامة المصرية في بورسعيد وأكثر مسببات هذا الإيلام كانت لعبة كرة القدم التي كانت مبارياتها الرسمية وقفاً علي الأندية الرياضة الأجنبية وحدها، فغير ناديي فورتس الإيطالي وهيسبيريا اليوناني كانت ببورسعيد أندية أخري منها نادي الاشكاربيه الفرنسي ببورفؤاد، والنادي المالطي، ولعبت فرق الجيش الإنجليزي التي كانت تمارس مبارياتها في معسكراتها ببورفؤاد وبورسعيد (الجولف) دوراً كبيراً في إشعال نيران المنافسات مع غيرها من الفرق، وفي تكريس وجودها الأجنبي داخل المدينة. وكان لتأجج الروح الوطنية في بورسعيد ضد الاحتلال الأجنبي الذي اتخذ سمتاً عسكرياً متمثلاً في الاحتلال الانجليزي، وآخر مدنياً متمثلاً في سيطرة الجاليات الأجنبية علي مقدرات المدينة؛ ونتيجة لتداعي الأوضاع في الحرب العالمية الأولي، (1914م.- 1918م.)، بالإضافة إلي اتساع الهوة الطبقية بين الوطنيين والأجانب، الأثر الأكبر في إنشاء أول ناد رياضي للوطنيين من أبناء بورسعيد الخلص، أسسه موظفو البلدية والجمارك والبوستة في العام 1917م. هو (نادي الموظفين) وكان مؤسسه هو المصري أحمد بك جاربو، وفي ذات العام أنشأ عبد الرحمن باشا لطفي ومحمد أفندي موسي، نادياً آخر هو النادي الأهلي؛ واندمج الناديان ليظهر النادي المصري للوجود في العام 1920م. الاسم وحده يدل علي روح التحدي الوطني التي أوجدته، وإمعاناً في هذا التحدي اتخذ مؤسسوه، مثلهم مثل أعضاء النادي الأهلي القاهري، من لون علم البلاد لوناً لفانلات لاعبيه ولرايته، وكان لون العلم وقتها هو اللون الأخضر، إنه لون العلم الذي رفعه الشعب المصري الثائر في العام 1919م. لواءً وشعاراً. منذ نشأته، والنادي المصري في مقدمة الأندية التي أبت إلا أن تقاوم الاحتلال البريطاني لمصر بكرة القدم مثله مثل النادي الأهلي، وعدد آخر من النوادي. كان النضال السياسي محتدماً وقت إنشائه، وكانت كل الأقنعة قد سقطت عن أوجه الإنجليز فبانت وجوههم القبيحة، ومثلهم بانت سوءات الجاليات الأجنبية التي تمادت في استنزافها لمقدرات المصريين واستعلت عليهم وتكبرت. وفي سبيل تعظيم هذه المقاومة لعب النادي المصري دوراً مهماً هو والأندية الوطنية، وما أقلها وقتها، من أجل إنشاء وتعزيز دور ومكانة الاتحاد المصري لكرة القدم في العام 1921م. مما أنعش لدي المصريين شعوراً بالزهو لأنهم صاروا يديرون شئون الكرة في بلادهم بأنفسهم، وكان النادي المصري هو النادي الوحيد بمنطقة قناة السويس المسجل في اتحاد الكرة المصرية. ومن الأمور اللافتة للانتباه أنه من بين 25 نادياً رياضياً أسسوا هذا الاتحاد لم يبق صامداً منها للآن سوي أربعة أندية، المصري أحدها، والأندية الثلاثة الأخري هي: الأهلي والزمالك والاتحاد السكندري. وتستمر مسيرة طويلة للنادي الذي ارتبط بوجدان أهالي بورسعيد، مزق فيها شباك الأندية الأجنبية التي كانت موجودة بالمدينة، هي ومنتخباتها، وألحق بها هزائم شهيرة منها هزيمته لمنتخب الأجانب الذي ضم لاعبين من فرق هيسبيريا وفورتس والنادي المالطي في العام 1925م. بهدفين نظيفين. واشترك في كل الحروب التي شهدتها مصر الحديثة، بل كان في قلب معمعة كل حرب من 1956م. حتي 1973م. حمل أعضاؤه ومشجعوه السلاح دفاعاً عن شرف الأمة في كل حرب وكل عمل نضالي، وحدث في حرب العام 1956م. أن حولته القوات الغازية إلي معسكر لاعتقال الوطنيين، إلا أنه سرعان ما تطهر منهم ومن آثارهم وتحول الملعب إلي ساحة للانتصار، وكان جمال عبدالناصر يأتيه في أعياد النصر ليلقي خطبه الملتهبة التي كان العالم كله يترقبها. الاستعمار.. فرق تسد لماذا إذن حدث التفارق بين هذين الناديين الكبيرين العريقين؟. علي بساطة هذا السؤال فإن إجابته معقدة ومتراكبة، والفصل بينها علي الورق صعب فما بالنا بها علي أرض الواقع مستحيل؟.. لنحاول قدر ما نستطيع. ولنجمع نقاط الإجابة تحت عنوانين عريضين أولهما عام والثاني خاص، العام يشمل الرياضة المصرية كلها، والخاص يخص الناديين العريقين والمباراة التي أعقبتها المجزرة. بداية لا ينبغي لنا نسيان ما زرعه فينا الاستعمار الانجليزي الذي اعتمد نهج (فرق تسد) هذا النهج الذي عمد فيه إلي التفرقة بين المسلم والمسيحي، والصعيدي والبحراوي، وشجع العصبيات، وعمل علي خلق هويات افتراضية وانتماءات ثانوية داخل المجتمع المصري، صحيح أنه لم ينجح فيما أراد، لكن التربة المصرية لا تفتأ تطرح بين حين وآخر ثمار ما زرعه الاحتلال الإنجليزي.. ثمار السم الزعاف، فإذا بتشنجات العنف المميت تظهر بين القبائل وأحياء المدن والروابط والجمعيات والأندية، وفي مقدمتها الأندية الرياضية وفي طليعتها تلك التي تمارس لعبة كرة القدم. غير هذا الإرث الاستعماري، لم يحدث أن التفتت الجهات التي يفترض أنها معنية بالرياضة اعتناءً مباشراً بالثقافة الرياضية الحقة فخلت منها السياسات والخطط والبرامج الرياضية، ومن ثم شاهت هذه الثقافة وانتقلت إلي عالم الغيب، ولم يعد لها في مصر وجود، خصوصاً في ميادين الكرة وعلي الأخص منها ميادين كرة القدم، ومسئولية هذا التغييب إنما تقع علي عاتق الاتحاد المصري لكرة القدم والمجلس القومي للرياضة والمجلس القومي للشباب، وقد بحثت في حدود طاقتي عن هذه المفرادت الثلاث (الثقافة الرياضية الحقة) فيما تمكنت من الاطلاع عليه من هياكل وأدبيات الجهات المعنية بالرياضة فلم أعثر علي ما أبتغيه، اللهم إلا بعض جمل عجفاء لا تطبيقات لها علي عجفتها في أرض الواقع. فما من وحدات تنظيمية فيها مختصة بالتثقيف الرياضي، والرمز الأمثل هو الهيكل التنظبمي لاتحاد الكرة فمن بين إداراته ولجانه المتخصصة، فإنه لا يتضمن إدارة أو لجنة تعني بأمر هذه النوعية من التثقيف.. حتي المجلس الأعلي للثقافة لم يول للثقافة الرياضية أي اهتمام، ربما بدعوي عدم تضارب الاختصاصات، فلم يضمن شعبه أي لجنة تهتم بالشأن الرياضي بما في ذلك لجنة العلوم الرياضية، مع أن الرياضة في عمومها وكرة القدم خصوصاً مضفورة تضفيراً متيناً بمعطيات الثقافة كذلك الأمر مع كليات التربية الرياضية التي بهت دورها وانعدم تأثيرها في ساحة الثقافة الرياضية. وللسياسة دور كبير فيما حدث، فقد رأينا الناديين الأهلي والمصري يستقويان بأهل السياسة سواء كانوا ممن يتولون مناصب في سدة الحكم، أو يمثلون الشعب في البرلمان؛ وليس صحيحاً علي إطلاقه قول جوزيف بلاتر رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، بأن كرة القدم في مصر ضحية للتدخل السياسي، فعلاوة علي تدخل السياسيين المصريين في شئون كرة القدم هناك كثيرون من وثيقي الصلة بلعبة كرة القدم يستغلون جماهيرية اللعبة لتحقيق مكاسب لهم ولنواديهم من خلال ممارسة العمل السياسي منفردين أو علي قوائم الأحزاب السياسية وما ترشيح أحمد شوبير علي قائمة الحزب الوطني (المنحل) ببعيد. منذ النشأة وكرة القدم المصرية ميدان للتنافس السياسي بين الوفد والقصر، فإذا كان سعد زغلول هو رئيس أول جمعيات النادي الأهلي العمومية، فلماذ لا يكون الملك فؤاد نفسه هو راعي نادي المختلط، وإذا كانت هناك انتخابات لرئاسة اتحاد كرة القدم يزمع رجل القصر وزير الحربية محمد حيدر باشا الترشح فيها فلماذا لا ينافسه فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية الوفدي. وتستمر حلقات التنافس مع الملك فاروق الذي يطلق اسمه علي نادي المختلط.. وتستخدم كرة القدم في إلهاء الشعب عن خسائر المصريين إبان نكبة 1948م، فيطلق فاروق الأول أول بطولة دوري لكرة القدم في مصر.. وها هو عبد الحكيم عامر يترأس بعد ثورة 1952م. اتحاد كرة القدم لمدة 10 سنوات، ويعين عسكريين رؤساء لمجالس إدارة النوادي الرياضية وأعضاء بالاتحادات، ومشهورة وقائع تدخله في شئون النادي الأهلي في الستينات وتعيينه الفريق عبدالمحسن مرتجي قائد الجيش المصري في حرب اليمن رئيساً لمجلس إدارة النادي الأهلي. واستخدم الحكام السياسيين في مصر كرة القدم كأداة في السياسة الخارجية، إذ نال جمال عبد الناصر مصر شرف تأسيس الاتحاد الافريقي لكرة القدم (كاف) في العام 1957م. وما تبعه من اعتراف الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بأفريقيا، وغير اختيار القاهرة لتكون مقراً للاتحاد الأفريقي فقد مثل هذا الاتحاد في الفيفا مصري، ويعد هذا مكسباً سياسياً مثلما هو مكسب رياضي. أما السادات فقد ألغي مشاركة المنتخب الوطني في بطولة دورة الألعاب الأوليمبية في موسكو عام 1980 م، بعد تأهله بسبب التدخل السوفييتي في أفغانستان؛ وقبيل مصرعه بأسابيع قليلة قرر عدم المشاركة في أي بطولات عربية رداً منه علي المقاطعة التي فرضتها جامعة الدول العربية علي مصر بعد إبرامه معاهدة كامب ديفيد مع العدو الصهيوني، وقرر أيضاً عدم المشاركة في كأس الامم الافريقية وقتها، ومثله أساء مبارك وولديه لكرة القدم المصرية بإلقائها في لجة سياساته مع الدول العربية فساءت علاقتنا الكروية مع دول الخليج ودول شمال أفريقيا.. وإذا كان ألتراس الناديين (الأهلي والمصري) لم يشاركا في ثورة 25 يناير من اللحظات الأولي لاندلاعها، فإن الحماسة التي تربوا عليها منعتهم إزاء مشاهداتهم للضربات الأمنية الموجهة للثوار من الركون للصمت، فدخلوا ميدان التظاهر وكانت لهم صولات فيه وجولات، ووراء هذا الدخول مشكلات وثارات قديمة بينهم وبين قوات الشرطة التي ظلت تضيق عليهم في كل مباراة، وبذا تبدلت المواقف من التشجيع الرياضي إلي الممارسة السياسية البحتة. وللاقتصاد دور منافس لدور السياسة، صحيح أن دوره ضروري لانتظام اللعبة، لكنه ليس كل شيء فيها؛ ومع هذا فقد برهن الواقع علي أن المال لعب دوراً كبيراً في إفساد رياضة كرة القدم المصرية باستخدام رجال الأعمال، المتطلعين إلي رئاسة مجالس إدارات الأندية أو عضويتها، نفس الأساليب التي يستخدمونها في الانتخابات البرلمانية كالاستعانة بالبلطجية والهتافين وتوزيع الرشاوي والهدايا علي أعضاء الجمعيات العمومية أو تنظيم رحلات ترفيهية، خارجية وداخلية، للمؤثرين منهم.. وقد ينخرط رجل الأعمال منهم في مزايدات شراء اللاعبين وينفق ملايين الجنيهات من خزائنه الخاصة ويسهم في ارتفاع أسعارهم بشكل مبالغ فيه؛ إلا أن الانعطافة الكبري تمثلت في سياسات مصر الاقتصادية، تلك التي بدأت بما أطلق عليه الانفتاح الاقتصادي وانتهت إلي الخصخصة فبسبب منها ظهر نظام الاحتراف المشوه، وبأن الفعل السلبي الناجم عن الاستثمار في الرياضة، ووضحت الانحيازات الإعلامية المغرضة، وسادت فظاظة الإعلانات. لقد حولت الاستمارات الرياضية اللاعبين إلي مجرد أصول كأصول الشركات، أصول يطلق عليها المحاسبون وصف الأصول البشرية، وأصبح الجمهور الرياضي عنصراً من عناصر إنتاج الربح، وتنافست الأندية علي جمع أكبر الأرباح من مباريات كرة القدم وعناصرها، وداست علي الثقافة الرياضة الحقة والأخلاق الرياضية القويمة. قد يكون للاستثمار الرياضي بعض فوائده الاقتصادية، لكنه قي مصر استثمار أشوه وقراراته عرجاء، استثمار محكوم بالعشوائية، ومهجن.. مهجن لأنه نتاج خليط غريب بين فوضي اقتصاد السوق الحر، والتدخل الحكومي الأعمي، فلا هو طبق الشروط الاقتصادية الحقة، ولا هو ضمن الاستقرار المالي الصحيح. وفي هذا الخضم ضاعت الشفافية وغاب الوضوح، فقد قيل في العام 2006م. علي سبيل المثال إن الاتحاد المصري لكرة القدم قد حقق دخلا يقدر بنحو 28 مليون جنيه من بيع حقوق البث التليفزيوني لمباريات الدوري المصري لعدد من الفضائيات العربية، وأذكر هنا أن لغطا دار في الأوساط الرياضية والإعلامية حول الغموض الذي اعتري المزايدة المرتبطة الموضوع، والتفتت الأنظار وقتها إلي "أحمد شوبير"، نائب رئيس الاتحاد المصري لكرة القدم وقتها، ورئيس لجنة البت، وأشارت إليه أصابع الريبة لأنه قبل أن يكون الممثل الرسمي لقناة دريم ومن ثم رعاية طلبها المقدم للجنة، ومع هذا ثم طلب منح حقوق البث لقناة الأوربت من الباطن!.. وغير هذه النقطة فإن الشكوك أحاطت بكيفية تحقيق اتحاد الكرة لهذا المبلغ علي ضآلته، وما إذا كان للمجلس الأعلي للشباب والرياضة دور في هذا أم لا. التمهيد للمجزرة إن هذه الأسباب علي عموميتها غير بعيدة عن ممهدات المجزرة التي شهدها ستاد بورسعيد الرياضي في الأول من فبراير 2012م، فإذا أضفنا إليها الأسباب النفسية التي تفصل بين جماهير الأندية العريقة بعضها البعض من ناحية، ومشجعي أندية المركز ومشجعي أندية الأطراف، صار الشغب الذي ينتهي بالمجازر نتيجة حتمية لا مفر منها ولا مهرب، وهنا نصل إلي المنطقة المفصلية بين الأسباب العامة والخاصة التي أدت هذه المجزرة. فمن العوامل التي أدت إلي هذه المجزرة، بالإضافة إلي العوامل المعروفة تلك التي أظهرتها المجزرة المريعة من تآمر وتهاون أمني وتعصب واحتشاد جماهيري زائد وشحن عاطفي لجماهير كل من الناديين العريقين، هناك الإرث الذي يحمله جمهور النادي المصري مثله مثل أندية أخري من انحياز حكام المباريات التي تجمع بين الفريقين للنادي الأهلي، وهو انحياز متكرر لا يتوقف إلا في مرات قليلة، والشواهد ما أكثرها، والتبعات أيضاً، ولعل أبرز هذه التبعات المطالبة الدائمة باستحضار طواقم تحكيم أجنبية بدلاً من طواقم التحكيم المصرية في المباريات التي يكون النادي الأهلي طرفاً فيها، إن الإحساس العميق باهتزاز ميزان التحكيم الكروي المصري هو ما حدا بالقريحة الشعبية لدي البورسعيديين إلي تضمين طقوس احتفالاتهم الشعبية بشم النسيم دمي تندد وتسخر من هذا التحكيم المنحاز. يضاف إلي انحياز التحكيم الكروي توزيع السلطة السياسية لرعايتها علي الناديين القاهريين: الأهلي والزمالك وعدم الالتفات إلي غيرهما إلا لغرض المغازلة التي تفرضها أوضاع سياسية معينة، فالسادات وجيهان أهلويان، وعبد الحكيم عامر زملكاوياً. وهناك ذلك الجنوح في التعصب لفريقي الناديين، وما أضافته ظاهرة الألتراس إلي هذا الجنوح من عوامل تأجيج وتصعيد، كان ممكناً أن تدعم الثقافة الرياضية السوية من خلال جماعات الألتراس إلا أن هذه الظاهرة، وأظنها تحتاج إلي دراسات علمية مفصلة، جنحت بالناديين إلي مهاو كانت المجزرة إحدي نتائجها، فقد سهلت مهمة المتآمرين لإلحاق الأذي ليس بالناديين فقط وإنما بثورة 25 يناير وبمصر كلها، ولا نستبعد عنصري السياسة والاقتصاد في تكوين هذه الظاهرة وإن لم يدر أعضاء الألتراس. إن جمهور النادي المصري لم ينس ما فعله ألتراس النادي الأهلي ببورسعيد في مباراة جمعت الناديين في بورسعيد العام الفائت حينما دمر الألتراس الضيف المحلات والمنشآت بالميدان المطل علي محطة السكك الحديدية، ولم يفوت عبارات التباهي المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكيف أنهم "علموا" علي البورسعيديين (كأنهم ليسوا مصريين)، ولم ينس كذلك حوادث الاعتداء التي تعرضوا لها في مباراياتهم بالقاهرة، كذلك مشجعي النادي الأهلي فإنهم لا ينسون ما يقابلهم به مشجعو النادي المصري بل مشجعي أندية منطقة قناة السويس بأسرها من جفوة، مع أن من سكان بورسعيد ومنطقة القناة أهلاوية أقحاح. وهكذا سار التعصب في المسار الخاطئ، وصار رايتا الفريقين الوطنيين العريقتين رايتان متجابهتان. بدأ التجابه بإطلاق الحناجر المبحوحة للهتافات ثم الشتائم ثم تدعمت بإلقاء الحجارة فإشعال الشماريخ والألعاب النارية فالضرب فالقتل.. وهكذا صارت مباريات كرة القدم نموذجاً نفسياً لقياس حالات المجتمع المصري الذي يعاني شعبه من حالات الكبت والاحتقان والإحباط، ووجد في مباريات كرة القدم وسيلة مثلي للتنفيس عما يعانيه.