مشكلة الحياة السياسية في مصر حاليا أن جمهورها ونخبتها جاءوا إليها من الإتجاه الخاطئ .. الغالبية العظمى منهم هم في الأساس جمهور كورة دخلوا إلى عالم السياسة بسبب توقف الدوري أو غياب الإهتمام .. فحملوا تقاليد وآليات التشجيع الرياضي إلى أروقة الحياة السياسية . حتى ما قبل 25 يناير 2011 .. لم تكن في مصر حياة سياسية بالمعنى الصحي المفهوم .. كان المصريون جميعا يتعاملون مع كرة القدم كبديل عن السياسة .. كنا نشجع الكرة ولا نمارسها .. نتعصب لها ونتجادل ونتشاجر ونختلف على الفاول والبنلتي وتحيز الحكام وهيمنة الأهلي وخيبة الزمالك وتهميش الإسماعيلي وفرق الأقاليم ..كنا نخلط كل قوانين اللعبة بألوان الفرق التي نشجعها ونطلب الكارت الأحمر للخصم ونرفض الكارت الأصفر للاعب فريقنا وهو يؤدي نفس اللعبة .. حتى معاني الوطنية عندنا كانت تتجسد في فانلة المنتخب وكرامة الوطن في أقدام اللاعبين .. وطبول الحرب تدق في مدرجات الملاعب . ومهزلة أزمة مباراة الجزائر أبسط دليل على ذلك .
الذي حدث أن زلزال 25 يناير أطاح بكرة القدم من أولوية اهتمامات المجتمع .. ألقى بنا جميعا إلى عالم السياسة الواسع بدون خبرة مسبقة ..فقمنا جميعا بإستعارة خبراتنا الكروية لتحملنا ونحملها في بحار السياسة .. كنا نشجع الكرة ولا نمارسها .. أصبحنا نشجع السياسة ولا نمارسها .. كنا نتحيز ونتعصب ونتشاجر ونتجادل حول ألوان الفرق أصبحنا نتحيز ونتعصب ونتشاجر ونتجادل حول أفكار الأحزاب والتيارات ..
في مدرجات الرياضة لم يكن هناك فارق بين الدرجة الثالثة والمقصورة الرئيسية .. فالغلابة في الترسو والباشوات في المقصورة لم يختلفوا كثيرا في طريقة التشجيع وروح التعصب .. كنت تستطيع أن تسمع أبشع الألفاظ وترى أفظع الأفعال من أهل المقصورة قبل أهل الترسو .. أهل المقصورة (وليس أهل الترسو) هم الذين فجروا أزمة مباراة الجزائر ونفخوا النار والتعصب ليحولوها إلى أزمة دولية ضحكت من عبطها الأمم .. ونقلنا نفس الظاهرة السلبية إلى أروقة السياسة .. فكثير من القيادات والزعماء الذين ظهروا على عجل بدفع من الإعلام أو بقايا السلطة الغابرة لا تختلف في خطابها السياسي وهرتلتها الإعلامية عن أي مواطن عادي يعيش في ترسو السياسة .. ولكن ما هو الفارق الحقيقي بين تشجيع الكرة وتشجيع السياسة ..؟
بمنتهى البساطة .. مشجع الكرة ينتمي لفريقه إلى الأبد ويشجعه غالبا أو مغلوبا .. وحتى إذا زهق من فريقه ومل من سوء نتائجه سوف يتجه غالبا إلى اعتزال التشجيع بشكل مطلق ولن يتجه أبدا للفريق المنافس .. في عالم السياسة الأمر يختلف .. قد تنتمي لهذا الحزب أو ذاك وتقتنع بهذا التيار أو ذاك .. ولكنه لا يكون إنتماء مؤبدا ولا تعصبا مطلقا.. في عالم السياسة ينتقل المشجعون بشكل تلقائي وعادي بين اليمين واليسار وحول مساحات واسعة من الوسط .. حسب متغيرات الأحداث وأداء القادة والزعماء وتطور الأمور .. مشجع الكرة لا يقبل بالتفاوض ..بينما السياسة قائمة في الأساس على التفاوض والبحث عن حلول وسط وتحالفات مرنة تتغير من حين لآخر .. لا يوجد في الممارسة السياسية ما هو كلي ومطلق .. كل شئ نسبي ومتغير .
وأهم فارق بين عالم الكرة وعالم السياسة أن الكرة فيها صفارة حكم تنهي المباراة وتحدد الفائز والمهزوم .. السياسة لا يوجد بها صفارة النهاية . هي عملية ممتدة طالما بقي الوطن والمجتمع هامش الفوز والهزيمة نسبي ومحدود حتى في الإنتخابات البرلمانية أو الرئاسية .. في عالم السياسة لا يوجد نظام خروج المغلوب .. ولا يوجد كأس للغالب وإقصاء للخاسر.. لا يوجد منصة تتويج يحتكرها من يحرز الأهداف ويقضي على الخصم ..
في الوقت الحالي معظم الظواهر السلبية في الممارسة السياسية سواء من نخبة المقصورة أو من جمهور الترسو ترجع للطشة التشجيع الكروي التي تغلب على العملية السياسية برمتها .. يمكن أن يتحمل المجتمع هذه الظاهرة السلبية لفترة محدودة باعتبارها مجرد آثار جانبية لعلاج ضروري كان الوطن يحتاجه للشفاء من أمراض عصر مبارك الكارثية .. ولكن أتمنى أن نتجاوز هذه المرحلة سريعا .. وأن يكتسب المجتمع مع تراكم الممارسة الخبرة الكافية التي تجعله قادرا على التفريق بين كرة القدم والسياسة