"زوجة مصرية تأخذ طفلها الصغير وتترك بيت الزوجية بعد مشاجرة بينها وبين زوجها حول الفائز في مباراة (مصر-الجزائر) يوم 14 نوفمبر 2009".. كان هذا هو الخبر الذي طالعناه جميعًا، ربما أدهشنا ربما أثار سخريتنا، ولكنه بتأكيد استحوذ ولو على بضع دقائق من وقتنا لنقرأه، وبالتأكيد العقلاء يتساءلون بينهم وبين أنفسهم: ألهذا الحد وصل التعصب الكروي؟! وكيف؟؟! ولماذا؟؟!
الرياضة عامة، وكرة القدم على وجهة الخصوص من المفترض بها -كما هو معلن- أن يكون هدفها هو تقريب الشعوب، وهو هدف سامٍ يضفي على اللعبة الممتعة للكثيرين عبر العالم، حسا أخلاقيا وثقافيا، فهم لا يستمتعون فقط بالمشاهدة بل ويتعرفون على شعوب جديدة وثقافات أخرى، وعلى كافة المستويات، جماهير ولاعبين، فالجماهير تسمع عن فرق من دول جديدة ستزورها في وطنها لتلعب مباراة ما أو سينتقل فريقها ليعلب في ذلك البلد فتبدأ في البحث عن هذه الدولة وتزداد بها معرفة، فأعتقد أن كثيرين لم يعرفوا أو يسمعوا مثلاً عن دولة (ترينداد وتوباجو) سوى بعد المباراة التي قامت بينهم وبين فريق الناشئين المصري في بطولة كأس العالم للناشئين، أما اللاعبون الذين ينتقلون من دولة إلى أخرى فهم يرون ثقافات مختلفة، ويتعرفون على أنماط متنوعة من البشر، كل ذلك المفترض في نطاق من المودة والتفاهم.
ولكن ما الذي يحدث على أرض الواقع؟ لقد تحولت الكرة إلى وسيلة للفرقة والمشاجرة والتعصب، ليس فقط لدرجة التفرقة بين الجماهير المختلفة لفريقين، بل بين زوج وزوجته، بالتأكيد يوجد بينهم ما هو أهم كثيرًا من مباراة كرة قدم..
انخرط الكثيرون في التأكيد على أن أسباب هذه الحرب الشرسة التي تدور الآن هي نتاج فراغ عام وشعور عربي بالنقص والهزيمة، من منطلق أن الشعوب المقهورة التي لا تجد انتصارات حقيقة في الواقع، تنغمس تمامًا في حرب حادة لتحظى بشعور الانتصار والتفوق ولو على مستوى كرة القدم..
وهو تفسير جميل لو نظرنا له سريعًا سنجده منطقيا بشدة، ويرضي لدينا دائمًا حاسة جلد الذات التي لم تعُدْ صفة مصرية فقط بل صدّرناها للأشقاء لتصبح على ما يبدو شعارا عربيا، ولكن بنظرة منطقية لأرض الواقع سنجد أن هذا ليس حقيقيا، فكم من المرات سمعنا فيها عن كوارث نتجت عن التعصب لفِرَق تخص دولا شعوبها لا يعانون من هذه العقدة، فدولهم من دول العالم الأول، والحياة هناك لا يتخللها أي مما يقال إنه سبب التعصب..
فالحقيقة المجردة أن هذا التعصب، هو تعصب أعمى أصبح يسيطر ليس فقط على الدول الفقيرة أو دول العالم الثالث بل أصبح يغطّي الكرة الأرضية بكل من عليها..
فالأمر لا ينحصر في نطاق كرة القدم فقط، فلو نظرنا نظرة سريعة حولنا لوجدنا أن الكل يتعصب من أجل شيء ما، فنحن نتعصب من أجل الدين ونتعصب من أجل العِرْق ونتعصب من أجل النوع ونتعصب من أجل الوطن، ونتعصب من أجل العادات والتقاليد المتعارف عليها في منطقة محددة ونتعصب من أجل الحزب السياسي، بل نتعصب من أجل المدينة داخل الدولة الواحدة، وبالتأكيد نتعصب من أجل فريق كرة القدم، لذا فهذا التعصب لا يمكن فصله عن سياقه الطبيعي في كوننا أصبحنا "كوكبا متعصبا".
لذا فليس من الغريب مطلقًا أن يحدث ذلك بيننا الآن، فثقافة التعصب تسللت لنا لتصبح جزءا من تكويننا ذاته، ربما كان الغريب هنا بحق هو مدى عنف التعصب.. مع طول رفقتنا للتعصب في كافة الأمور السابقة رأينا منه الشديد والخفيف والصريح والمبطّن وما هو بين الأعداء وما هو بين الإخوة وأهل الوطن الواحد بل والبيت الواحد، ولكن شراسة هذا التعصب هذه المرة هي ما يدفع للتساؤل.. لماذا؟!
هل هذا التعصب من أجل مكسب وطني؟! لا أعتقد، فهؤلاء الشباب في مصر والجزائر لديهم أمور وطنية أهم بالتأكيد عشرات المرات من مباراة كرة قدم، قد يكون تعصبهم لهذه الأمور على الأقل له معنى، ولديهم على مستوى أمتهم العربية أمور أكثر أهمية لم يعيروها يوماً اهتماماً، بل إن اغلب هؤلاء الرافعين لشعار مصر أو الجزائر، ستجدهم ساخطين بشدة على دولتهم ربما يريدون الهجرة منها من الأساس.
هل هذا التعصب من أجل كراهيتك للطرف الآخر واختلافه معك؟؟! يمكنك أن تجيب بكل تأكيد هنا أيضًا بلا، فالبلدان عربيان، ونحن لن نردد الشعارات الدائمة بأننا أشقاء... إلخ؛ فبكل أسف لم يعد أحد يُثمّن هذا الكلام الآن، ولكن الواقع يقول لم تضرنا الجزائر يومًا ولم نضرها، ولم يتخذوا أي مواقف ضدنا ولم نفعل المثل، بل هناك تاريخ قديم مشترك بالتأكيد حفظه كل القراء الآن عما فعلته مصر للجزائر في حرب الاستقلال وعن وقفات الجزائر لمصر بعد الهزيمة وأثناء النصر، لذا بعيدًا عن المناوشات الكروية أيضًا لا توجد أي مبررات للصراع أو التنفيس عن الكراهية عبر هذه المباراة..
لذا ببساطة لا يوجد حقًا مبرر يدفع لكل هذا التعصب، إلا لو كان اتجاه جديد يُدعى "التعصب للتعصب"، مثل "الفن للفن" مثلاً!
قد تعتبر هذه مزحة ولكن لنلقِ نظرة سريعة على ما يحدث، مصريون يقومون بعمل صورة جرافيك لراقصة ويجعلون بذلة الرقص علم الجزائر، ويقومون بعمل نشيد جديد على النشيد الوطني الجزائري، ودعاوى لعمل شغب تحت غرف اللاعبين الجزائريين في الفندق، وجزائريون يحرقون العلم المصري ويقومون بصنع صورة جرافيك لتهين اللاعبين ويضعون بدلاً من رؤوسهم رؤوس فنانات فضلا عن تصريحات مهينة ومسيئة من إعلاميين جزائريين.
ليت الأمر توقف عند هذا الحد؟ بل بدأت التهديدات بين الفريقين، فالمصريون يهددون الجزائريين القادمين لمشاهدة المباراة واللاعبين لدرجة القول بأن بلد المليون شهيد سيضاف إليها 11 آخرين والجزائريون لا يتوانون عن التهديد والوعيد بل هددوا حتى على المستوى المستقبلي، ولسان حالهم يقول لكم يوم في الجزائر، ونحن على استعداد لمعركة قادمة..
لقد وصل صيت المعركة / المباراة، للدرجة التي جعلت جريدة "الجارديان" البريطانية تتحدث عنها، ولكنها أرجعت السبب في كل هذا التعصب والعداء إلى التعبير عن عدم الود بين الشعبين المصري والجزائري؛ وذلك لابتعاد مصر عن الصف العربي بعد اتفاق السلام المفرد مع إسرائيل؟!!
وقد صرح "بريان أولفير" أحد صحفيي الجريدة بالنص: "لم يكن هناك ود بين المصريين والجزائريين على مدار التاريخ ومن الواضح أنهم يعبّرون عن مشاعرهم الدفينة من خلال كرة القدم، فالجزائريون يرون المصريين على أنهم منعزلون ومتكبرون، ولذلك أعتقد أن الأمر مرتبط بالسياسة بشكل كبير، خاصة بعد الخلاف السياسي الذي وقع بين العرب ومصر بعدما عقدت الأخيرة اتفاقية سلام مع إسرائيل على عكس رغبة العرب بما فيهم الجزائر، بالإضافة إلى أن الجزائر لم تلعب دوراً سياسياً أو ثقافياً في المنطقة العربية والشرق الأوسط الأمر الذي يجعل المصريين يتفاخرون بذلك، وهو ما يثير غيرة الشعب الجزائري". إذن فقد تحول الأمر من مجرد لعبة إلى سياسة وتاريخ، تخضع لتأويلات؟!!، وأصبح حالة عامة من الضجيج بل السعار المجنون الذي اجتاح البلدين من أجل لعبة..، اسمها لعبة.. أي شيء غير حقيقي بل لمجرد التسلية وليس للقتال والحرب..، والكارثة أنه لا أحد يفكر في هذه الكلمة أبدًا "لعبة"، ولذلك كلما حاول المتعقلون أن يهدئوا من هذا الانفلات اتُّهِموا على الفور بخيانة الوطن وليس أقل من ذلك..
ولقد بدأت بالفعل جهات معتدلة في هذا المسعى، وربما يكون العجيب أن تكون هذه التهدئة قد بدأت منذ مباراة مصر والجزائر الأولى في البليدة، حيث دعا الشيخ القرضاوي إلى التزام الهدوء وعدم التعصب واتباع أخلاق الإسلام الحسنة في التعامل مع الفريق الآخر ومشجعيه، ومنذ هذه المباراة وحتى اليوم انطلقت عشرات الدعوات، الدعوة المشتركة لجريدتي الشروق المصرية والجزائرية تحت شعار "ادخلوا مصر آمنين.. فلا مكان للمتعصبين".. ودعوة جريدة المصري اليوم تحت شعار "وردة لكل لاعب جزائري"، موقف كابتن أحمد شوبير بالسفر للجزائر، بل مواقف بعض الفنانين كأحمد السقا وأحمد عز ومحمد هنيدي الذين صرحوا بانضمامهم لدعوة المصري اليوم وبذلهم ما في استطاعتهم من جهد، برنامج كصدى الملاعب الذي حاول ذلك عن طريق استضافة فنانين مصرين وجزائريين مثل الفنان المصري محمد فؤاد والفنانة الجزائرية فلة، وأخيرًا حفل محمد منير والشاب خالد، إذن هناك حملة كاملة للتهدئة على كافة المستويات الدينية والكروية والصحفية والفنية.
ولكن ما مردود كل ذلك؟؟ بكل أسف صفر، ففي المقابل إعلام أكثر تأثيرًا ينفث النار في القلوب قبل العقول، ويُحمي وطيس المعركة القادمة.. ويجعل من يوم 14 نوفمبر يوم مصيري في حياة البلدين..
للأسف السيناريوهات المتوقعة كلها مظلمة، فإذا حدث وكسب الفريق الجزائري فهذا قد يؤدي لحدوث كارثة، فالجمهور المصري المشحون والذي سيطرت على عقله فكرة أن النصر في هذه المباراة هو البديل الوحيد قد يخرج عن طوره ويحاول التهجم على الفريق الجزائري أو الضيوف الجزائريين، وإذا حدث وفاز الفريق المصري، فلا أحد يضمن ما يفعله هؤلاء الضيوف أنفسهم هنا -وهم ليسوا قليلي العدد- أو حتى ما يفعله الجزائريون في الجزائر مع الجالية المصرية، بعد أن تم شحن الجزائريين إلى حد رفع شعارات النصر أو الشهادة؟؟!!
هناك سيناريو ثالث ورغم كونه غالبًا سيمتص الصدمة، وهو أن تفوز مصر في المباراة بفارق هدفين إلى لا شيء للجزائر، وهنا تكون هناك مباراة فاصلة.. هذا على الأغلب سيجعل الفريقين أو الشعبين بمعنى أصح تخبو حماستهم نتيجة صدمتهم في المباراة وخاصة مع تفكيرهم في المعركة القادمة، ولكن بكل أسف هذا يعني أن تكون هناك جولة أخرى لهذه المعركة التي نتمنى من الله ألا تصل لأن تكون دموية.
والمشكلة أن هناك ندبة في النفوس قد نشأت بين مواطني البلدين، أصبح من العسير علاجها مع كم الإهانات وتساقط الأخطاء الذي حدث..
في النهاية كما بدأنا بالخبر الخاص بالزوجة التي هجرت زوجها من أجل المباراة، دعنا نزيح قليلاً بعض السواد الذي سيطر على المقال ونذكر خبر آخر لزوج وزوجة أخريين، زوج محامٍ جزائري من ولاية قالمة، وزوجته المصرية اتفقا أن يدُعوا عائلتهما على مأدبة عشاء لمشاهدة المباراة معًا، على أن يشجع الزوج الجزائري وأحد الأبناء الفريق المصري، وأن تشجع الزوجة المصرية وباقي الأبناء الفريق الجزائري، وعندما سئلوا عن السبب صرحوا أنها لعبة، والغرض من المباراة هو الاستمتاع فقط لا غير..