يسألني بعض من شباب القراء عن نصائح تعينهم على أن يكونوا أكثر فهما لواقعهم واستعدادا لمتطلبات زمنهم، فلا أملك إلا أن أقول لهم "اقرءوا" في الدين وفي غيره. وهو ما فهمته من ملاحظة الشيخ محمد الغزالي البارعة عن قول الحق سبحانه "اقرأ" كأول كلمة استقبلتها أذن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من آخر رسالات السماء. وملاحظة الشيخ هي أن أمر "اقرأ" ورد غير متعد لمفعول. فلم يقل الحق اقرأ ماذا وإنما ركّز على المنهج بأن نقرأ باسم ربنا الذي خلق مع التذكير بكيف أن الله خلق الإنسان من علق وكيف أنه علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم. واتخذ الشيخ من هذه الآيات دليلا على جمع الأمر القرآني بين الدين والعلم والفلسفة: اقرأ في كتاب الله القرآن؛ أي تديّن وآمن، واقرأ في كتاب الله الكون أي تعلّم وتفكّر. وهو نفس ما ذهب إليه الزكي النجيب محمود حينما صدر كتابه "رؤية إسلامية" بفصل عنوانه "أنا المسجد وأنا الساجد"، أي أننا نحن المسلمين جُعلت لنا الأرض مسجدا، فالمعمل مسجد والعالم ساجد فيه وهو يعمل، والمدرسة مسجد والمدرّس ساجد فيها وهو يدرّس، والمشفى مسجد والطبيب ساجد فيه وهو يعالج مرضاه. فالمسلم مسجد وساجد في آن معا. هذا ما ينبغي أن يكون وإن شئت فقل هذه هي القيم التي نمنا في نورها، واستيقظ الآخرون في ظلام غيابها، فتراجعنا وتقدموا. أما ما هو بين أيدينا من واقع فيحتاج أشعة خارقة للشكليات نافذة للجوهر والآفات... ولنبدأ بالملاحظات الثلاث التالية: 1 حين كنت في القاهرة، وجدت زميلة لي في الجامعة وقد تأخرت في التسجيل لدرجة الماجستير؟ سألتها، فقالت: إنني أستحضر النية. وقلت لها: كم قد يستغرق ذلك منك؟ فقالت: عدة أشهر ربما. قلت: هل أدلّك على شيء إن فعلتِه استحضرتِ النية؟ قالت: نعم. قلت: أتمّي عملك على خير وجه وقولي قبل وأثناء وبعد العمل: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". إن الله ما كلفنا فوق ما نطيق، وما أمرنا باستحضار النية الصالحة حتى تكون معطلة عن العمل، هذا من الخرافة وإن نسبناه للإسلام زورا.
2 لماذا رفضت زميلتي الأخرى التسجيل في الموضوع الذي اقترحه مشرفها عن التطور الاقتصادي والديمقراطي في الهند؟ سألتها فقالت لأنها تريد عملا تخدم به الإسلام. سألتها: مثل ماذا؟ قالت: مثل النموذج الإسلامي الحضاري في عهد سيدنا عمر بن الخطاب. قلت: وما أدراك أن الثاني يخدم الإسلام أكثر من الأول؟ قالت كلاما ما وافقتها عليه وكانت حجتي أن المسلم المحب لدينه ومجتمعه عاقل رشيد يعرف أنه في الأصل إنسان ينطبق عليه ما ينطبق على سائر البشر ويمكن له أن يستفيد من تجارب الآخرين. فموضوع صدر الإسلام دُرِس مئات المرات من قِبَل باحثين ومؤرخين وفلاسفة وأصبح الجديد فيه قليلا للغاية. هذا الموضوع الذي بدا لها "إسلاميا" لا يخدم الإسلام في شيء إلا إذا كانت واثقة من أنها ستأتي بجديد، وللأسف لم تكن أجندتها تحوي أكثر من أن الموضوع "إسلامي" يتم تناوله بطريقة "إسلامية" وهو كلام يصعب عليّ فهمه. قلت لها: نحن لا يوجد لدينا في كلية الاقتصاد متخصصون في الهند وشئونها على الرغم من وجود آخرين متخصصين في الفكر الإسلامي وتجاربه، وبالعودة لابن تيمية: "لو برع غير المسلمين في علم من العلوم أو درب من الدروب أو فن من الفنون، ولم يكن عند المسلمين نظيره فقد أَثِم المسلمون"، وبما أننا بحاجة لمثل هذا التخصص في قضايا الهند فهي ستخدم الإسلام أكثر. فخدمة الإسلام لا تحتاج لافتة إسلامية أو أن يكون موضوع الدراسة "إسلاميا"، فالذي درس دورة حياة البعوضة وتبين منها الطور المعدي لمرض الملاريا ما كان يدرس "بعوضة إسلامية" ليفهم انتقال مرض "الملاريا الإسلامية" وإنما كان له أن يخدم الإسلام بخدمته للإنسانية ما دام لم ينسَ "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم".
3- تناقشت مع بعض الزملاء فيما يحدث حولنا في المنطقة من تناحر جعل بعض العلماء الأفاضل ينادون من على الفضائيات المتناحرين في فلسطين والعراق والصومال والسودان واليمن إلى الاجتماع على كلمة سواء؛ وكأن مشكلاتنا خناقة فوق كوبري "نقول كلمتين نهدّي النفوس وكل واحد يروح لحاله". مع الأسف هذا تبسيط مخلّ لا يختلف عندي عن أولئك الدعاة الذين يظنون خطأ أنهم يخدمون الإسلام فقط بدراسة إيجابيات أول مائتي سنة من تاريخ الدولة الإسلامية. وقد قالها محمد الغزالي: ماذا يفيد الإسلام إذا طلّق المسلمون الدنيا وتزوّجها غيرهم؟ وأنا أسأل علماءنا الأفاضل، الذين أكنّ لهم كل احترام، هل حل مشكلة التعايش بين المسلمين وغير المسلمين أو المسلمين من طوائف ومذاهب مختلفة يكون من خلال انتقاء قصص منمّقة ومنتقاة بعناية عن التعايش والتحابّ والأخوة الإسلامية؟ لماذا لم ينجح الصحابة العظام في التعايش بعد وفاة سيدنا عمر؟ ولماذا الفتنة الكبرى؟ أحد المشايخ قال بثقة لا أعرف مصدرها: إن الشيطان دخل بينهم. وأنا أسأل الشيخ الفاضل: ألم يعرف الصحابة العظام كيف يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم الذي نعلم يقينا أن كيده كان ضعيفا بنص القرآن الكريم؟ أم إن المشكلة أكثر هيكلية من قصة أو رواية؟ لقد هدم الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة بنيران المنجنيق؟ والمعتصم بالله الذي نعرف عنه قصة فتح عمورية لأن امرأة قالت "وا معتصماه" وخلّده أبو تمام في قصيدته المشهورة هو الذي لم يستطع أن يتعايش مع الإمام الجليل أحمد بن حنبل وعذّبه فأغلظ تعذيبه. بل إن المعتزلة زعماء الفكر التنويري في تاريخ المسلمين حملوا على أعدائهم حملة أهانت العقل والتفكير.
دعوني أقُلْ إن مجتمعاتنا تمر بمشاكل هيكلية. كالمبنى الذي تحتاج أساساته إلى إعادة تأهيل. القضية ليست في دهان حجرة هنا أو تغيير عتبة سلم هناك. المسألة ليست أن يقف داعية أو شيخ من على منبر فيحكي لنا ما نحب أن نسمعه عن الأخوة والتعايش والإيثار الذي كان عند "بعض" الصحابة لكنه قطعا لم يكن عند الجميع بنص القرآن إذ قال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}. القضية تحتاج إلى العلوم الاجتماعية وإلى الفلسفة وتاريخ الفكر وليس فقط إلى دعاة ومشايخ مهما حسنت نواياهم. أين هؤلاء العلماء والفلاسفة؟ وما هي دراساتهم؟ وكيف نستفيد منها إن وجدت؟ القضية أخطر من أن تترك لمن رفع صوته وضعف علمه وقلّت خبرته، ألم يقُلْ عمر رضي الله عنه: "تفقّهوا قبل أن تسودوا".
لقد غلب التدين الشكلي الذي يُحرص بعض الدعاة والعلماء على أن ينبهونا ألا نقف عند حدود الشكل فيه لكنهم حقيقة يغذّون هذه النزعة الشكلية دون أن يدروا. أتدرون لماذا؟ لأن خلطة المسلّح التي يصنعونها فيها الكثير من الرمل والقليل من الحديد والأسمنت، فيهوي البناء. فيها الكثير من الغيبيات الدينية والقليل من العلم والفلسفة. هل أدلّكم على أشياء إن فعلناها كنا أكثر تدينا وأكثر علما وأكثر فلسفة وأقل شكلية وأقل تواكلا وأقل نفاقا؟ تعالوا نفكر معا.
إن الدين بلا فلسفة سيكون شكليات تهتم بتوافه القضايا وتنعزل عن قضايا المجتمع الحقيقية، والدين بلا علم سيكون غيبيات واتكالية على سنن الله الخارقة التي ما وعد الله بها أحدا إلا بعد أن يكدّ ويكدح عملا بسنن الله الجارية. والفلسفة بدون دين ستكون شطحات وخروجا عن المألوف والمقبول، والفلسفة بدون علم ستكون مثاليات نسمع عنها ولا نعرف كيف نصل إليها، والعلم بدون فلسفة سيكون أداة للدمار؛ لأنه سيكون منزوع الأخلاق، والعلم بدون دين سيقف متحديا لقيم المجتمعات المتدينة، فيرفضه العوامّ ولا يفيدون منه. إنها خلطة متوازنة متكاملة يلعب فيها كل مصدر من مصادر المعرفة الإنسانية دوره... كخلطة الخرسانة التي يشد بعضها بعضا، فلا مفاضلة بينها وإنما التكامل.
كيف نطبق ذلك في حياتنا العملية؟
فلنسأل أنفسنا السؤال التالي: كم قصة سمعتها أو قرأتها عن الصحابة العظام؟ 100 قصة؟ عظيم... اجعلها 150 قصة عن الصحابة العظام ولكن أضف إليهم 50 قصة عن غاندي وعن نيلسون مانديلا وعن بيل جيتس وعن أينشتاين وعن نيوتن وعن أحمد زويل وعن أديسون وعن الفلاسفة الكبار الذي خلقوا العقلية الغربية مثل كانط وفولتير ولوك وماديسون وآدم سميث... اعرفْ كيف نجح هؤلاء وكيف تجاوزوا الصعاب، اعرفْ معنى البيئة العلمية والتقاليد الجادة في التفكير والتنظيم وحسن الإدارة وإنكار الذات والعمل الجماعي والشفافية والمكاشفة. وهذا ما يقتضي القراءة والتنوع في مجالات القراءة في التخصص وخارج التخصص. بلغة مالك بن نبي لا بد أن نخرج من طغيان الأشخاص والأشياء إلى رحابة الأفكار والأحداث. إن مجتمعاتنا تمر بقرونها الوسطى، مثلما مرّت مجتمعات الغرب بما هو أسوأ مما نحن فيه الآن، لكننا لن نخرج مما نحن فيه إلا إذا أعدنا للأفكار مكانتها في حياتنا، وأرجو أن يكون وزير التعليم الجديد على استعداد بأن يجعل قضية القراءة مركزية في برنامج وزارته، وإلا فستمتد السنوات العجاف بأكثر مما نطيق.