"إخوتي الدعاة.. إذا لم نراجع ما يصدر عنا من مخاطبات وتصرفات باسم الإسلام فسوف نتسبب في جعل الثورات القادمة ضد الدين".. مقولة عظيمة للإمام المستنير علي الجفري، لم أجد خير منها لدعم وجهة نظري في أولئك الذين ينفّرون الناس من دينهم ظنا منهم أنهم ينتصرون لله، ودين الإسلام، ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. فالثابت والمؤكد أن الشعب المصري وبلاد ثورات الربيع العربي حين هبّت عليها نسائم الحرية، وخلعت عروش القهر والاستبداد، لم تجد سوى الدين بديلا حتى يصلح ميزان العدل المكسور، ويعيد إليها كل ما فاتها من قيم ومبادئ وروحانيات، حيث لا يخيب أو يضل من اتّبع وصايا وتعاليم الإله العظيم الحكيم. لكن نظرة تأملية للواقع ستكشف عن ذلك الفارق الشاسع بين الإسلام وتعاليمه ووصاياه، وبين أولئك الذين ينادون بتطبيقه وهم أبعد ما يكون عنه، ليساهموا بأفاعيلهم وتصرفاتهم في تثبيت كل الافتراءات والشائعات التي أطلقها أعداء الدين ضد الإسلام، ليصدق فيهم قول الإمام الغزالي -رحمة الله عليه- حين قال: لست أخاف على ديننا، قدر ما أخاف على هذا الدين من متحدّث جاهل، أو منافق، وفي مقولة أخرى قال: لست أخاف على ديننا من أعداء الإسلام رغم قوتهم بقدر ما أخاف على هذا الدين من سياسي يتخذ إلهه هواه. فإذا ما أخطأ الرئيس -من وجهة نظر قطاع كبير من الشعب الذي رفض إعلانا دستوريا يصنع ديكتاتورا جديدا ولو بشكل مؤقت لا نعلم هل سينتهي أم لا- فهو مثل كل ديكتاتور في التاريخ بدأ بوعود وإجراءات قال وقتها إنها استثنائية ثم أصبحت أمرا واقعا، ليخالف مرسي ما قامت الثورة من أجله، والتي لولاها لما وصل أصلا إلى الحكم، فلا مانع من أن يخرج علينا دكتور أزهري محسوب على التيار الإسلامي ليصف كل هؤلاء الملايين بالجرابيع، أعداء الدين الذين يجب على الإسلاميين أن يتأسدوا في مواجهتهم، واصفا نفسه بالملاكم القديم، لأن "بتوع التحرير" -على حد وصفه- لا يريدون الخير والصلاح لهذا البلد، ولا يريدون للدين أن يسود. في لحظة واحدة أصبح المخالفين في الرأي "السياسي" أعداء للدين؛ يجب تطهير البلاد منهم، ليخرج ضدهم مؤيدو الرئيس في مليونية باسم "الشرعية والشريعة" وكأن هؤلاء أنصار شرع الله ودينه، وميدان التحرير وكأن معارضي الرئيس خصومها وأعداؤها رغم أن نفرا منهم قد يكون لله أعبد، وإليه أقرب! في لحظة واحدة أصبح الرئيس ومن معه هم الإسلام، ومن يعارضهم حبا في مصر وحرصا على مستقبل أفضل لهو زنديق، علماني، كافر، في خلط غريب للمصطلحات، وتشويه فكري ومعنوي يخدع البسطاء، لحشد الرأي العام بطريقة رخيصة. في لحظة واحدة يطل عليك الداعية الإسلامي صفوت حجازي ليقول إن من لا يعجبه حكم الإخوان المسلمين فليرحل من البلاد. ونسي هؤلاء أن الرئيس قد أحنث بوعده حين أكد في انتخابات رئاسة الجمهورية أنه سيعيد موازنة اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور لو فاز في الانتخابات، ثم انقلب على عقبيه ولم يحقق ما وعد به، قبل أن يتم إلقاء العيب واللوم كله على معارضيه "الكفار". وحين ذهبت جحافل الإسلاميين لمحاصرة المحكمة الدستورية العليا ومنعها من أداء عملها باسم الدين، لم تمنعهم وزارة الداخلية أو تحاصرهم بقنابل الغاز المسيلة للدموع مثلما فعلت مع باقي المتظاهرين في شارع محمد محمود، الذين وصفهم الإسلاميون بالبلطجية والمخربين ومعطلي عجلة الانتاج، لكنه حلال لهم أن يمارسوا بلطجتهم وعنفهم، والمبرر واضح والحجة جاهزة "المحكمة لا تريد الخير للبلاد وحكمها ضد الدين"! وهكذا تم تدنيس الدين واستخدامه كأداة سحرية تحلل لهم ما يريدون، وتحرم على غيرهم ما يعترضون عليه، ليصيروا سلطة سماوية على الأرض، ويصبح أي معارض آخر -بغضّ النظر عن نيته وتدينه وحبه لبلده- مجرد كافر عدو، يقال له دائما في أي خلاف "موتوا بغيظكم" رغم أن الله جل وعلا قد أنزل تلك الآية في الكفار! ومع كامل اعترافي بأن ليس كل المعارضين شرفاء أو ملائكة، وبعضهم بالفعل معلول النية، ويتصرف هو الآخر تصرفات لا تليق باللحظة الحرجة التي تمر بها البلاد، إلا أن الخطأ الذي يرتكبه معارض لا يتساوى بخطأ من يدعي أنه يتحدث باسم الله ورسوله، ويريد لشريعتهما أن تسود، لأن كلامه محسوب على دين وشريعة بأكملها، وتلك هي الكارثة. حتى لو انطفأت النيران الفترة المقبلة، وحقق التيار الإسلامي غايته بما فيها خلط مخل بين الدين وأهدافه الدنيوية، فسيظل تحت الرماد نيران أخطر وأقوى، نيران ستمتد ضد الدين نفسه، ليبدأ البعض في بغض الإسلاميين، قبل أن يمتد بغضه -دون أن يشعر- إلى الإسلام، ليصل كثير من الناس إلى مرحلة النفور من الدين الذي سيستبعدونه من حياتهم ولا يريدون من يتحدث باسمه. وهكذا بعد أن اتجه المجتمع إلى أقصى اليمين الديني وقت أن كان يريد من الدين الخير والصلاح، سيتجه في لحظة من اللحظات إلى أقصى اليسار المضاد للدين، بعد أن يرى ممن ينادون بتطبيق شرع الله آفات وموبقات تجعلهم ينفرون من الدين، ليتحملوا أوزار كل من كره الدين بسببهم أو ابتعد عنه، وصار الكفر في حياته هو الحل.. تماما مثلما حدث في أوربا بالعصور الوسطى حين كره الناس الكنيسة التي استبدت بالحكم، وصارت تبيع صكوك الغفران التي لا توبة لأي مذنب إلا بشرائها، فاتجه المجتمع في عصر آخر للعلمانية التي تنادي بفصل الدين عن الدولة، وغرقت أوربا والغرب في موجات الانحلال الأخلاقي.. وفي نهاية كلامي لا يسعني سوى الاستشهاد بحديث سيد الخلق سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "أخوف ما أخاف عليكم ثلاثا.. رجل قرأ القرآن حتى رأيت عليه بهجته، وكان ردءا للإيمان أعاره الله عز وجل إياه ما شاء الله، اخترط سيفه ورمى جاره بالشرك فضربه، قالوا: يا رسول الله فأيهما أولى بالشرك الرامي أو المرمي؟ قال: الرامي، وخليفة مثلكم آتاه الله عز وجل سلطانا فقال من أطاعني فقد أطاع الله عز وجل ومن عصاني فقد عصى الله عز وجل وكذب، ليس لمخلوق أن يكون حقه إلا دون الخالق، ورجل استخفته الأحاديث فلما فرغ من أحدوثة وصلها بأطول منها أن يدرك الدجال يتبعه". ثم مقولة الإمام الغزالي الشهيرة: أنا لا أخشى على الإنسان الذي يفكّر وإن ضلّ، لأنه سيعود إلى الحق، ولكني أخشى على الإنسان الذي لا يفكّر وإن اهتدى، لأنه سيكون كالقشة في مهب الريح.