تهزّني الصورة، فتاة مراهقة تمسك بشعرها المقصوص وفي الخلفية أمها تجلس بنظرة حائرة وكأنها لا تعرف ماذا تفعل؟ قبلها.. كانت صورة فتاة الابتدائي التي قصّت لها معلمتها ضفيرتها، وقبلها حكايات صديقاتي عن منتقبات المترو اللائي يدعين لله وللحجاب بكلمات تقطر عصبية وانفعالا وصراخا يصل أحيانا للعنف اللفظي أو الجسدي في عربة السيدات، هل المنتقبة هي بعبع هذا العصر؟! المنتقبة في حقيقتها سيدة مصرية عادية، وفي عائلتي بعض منهن، أحبّهن وأحترمهن جميعا وإن كان بعض منهن لا يبادلنني الاحترام نفسه لكوني متبرجة ومتحررة، يرون فيّ شيئا سيّئا يتمنون لو يتغير، ولا يتوقفن عن الدعاء لي بالهداية في وجهي وكأني شاة ضالة! المنتقبات اللاتي أعرفهن أنواع، منهن من ترتدي النقاب لمرضاة الله ومنهن من ترتديه لمرضاة زوجها، ومنهن من ترتديه لضيق ذات اليد وعدم القدرة على الاهتمام بمظهرها، ومنهن من ترتديه لتخفي هويتها وتتصرف بحرية أكبر، ومنهن من تحبّ جسدها وتريد أن تحفظه من التحرش اليومي والعيون الجائعة، ومنهن من تكره نفسها وجسدها وتتمنى لو تخفيه تماما عن العيون. أيا كان نوع هذه المنتقبة، فأنا أحترم قرارها وأعرف أن قرار ارتداء النقاب ليس قرارا سهلا، ويحتاج إلى شجاعة قصوى، فبجانب كل ما سيسببه هذا النقاب من عزلة؛ بسبب أنك سترين أشخاصا لن يروكِ سوى كومة سوداء بلا شخصية، شجاعة للتخلي عن كينونتك، وعملك وعلاقاتك.. وأيضا فوق هذا تضعين طبقات من الملابس السوداء فوق بعضها بعضا في حرّ مصر القائظ، حدود البرقع التي تلهب الجفون في البداية، وثقله الذي يعوق التنفس حتى تتعوديه، ذلك الجهد النفسي والجسدي الذي تحتاجه كل منتقبة، وترتضي التضحية به في مقابل الجنة الموعودة، أحترمه ويجب أن يحترمه مجتمعنا ويقدّره؛ لأنها حرة في جسدها تفعل به ما تشاء. ولكن عندما يتحول الأمر إلى ظواهر اجتماعية سلبية، مثل ارتداء النشالات والمتسولات للنقاب، أو ظاهرة الإيذاء النفسي والجسدي من بعض المنتقبات للآخرين متمثلا في قصّ شعر الفتيات، التأفف والاستغفار عند رؤية من لا يماثلهن في المظهر، نشر خطاب الكراهية أو التطرف الديني في الأماكن العامة. هنا لا بد من وقفة يا سيدتي؛ لأن حريتك تنتهي عند أنف الأخريات وخصلات شعورهن، نعم أنتِ ملتزمة دينيا وتظنين أنك بذلك تصبحين الأفضل، ولكن هذه الحقيقة ليست سوى في رأسك وحده، بالنسبة للآخرين لست سوى "هتلر" جديد يرى في ذاته جنسا ساميا، وفي الآخرين جنسا أقلّ يستحق القتل، فهل من الممكن أن تكون اعتداءات المنتقبات هذه يكمن وراءها نزعة نازية وسادية! لا أظن ففي مصر يتعرض الرجل العادي للكثير من الضغوط ولا يعامَل بآدمية، ويفتقد إلى معظم حقوق الإنسان الأساسية وبخاصة التعليم والأمن؛ حيث يفتقدهم نصف تعداد الشعب المصري تقريبا، وبعد الرجل العادي يأتي هذا الضغط مضاعفا على الطفل المصري في نقص التعليم والأمن والغذاء الصحي اللازم للنمو والعلاج في أغلب الأحوال، ثم يأتي الضغط مضاعفا على المرأة المصرية، خاصة إذا كانت أمّا، فهي تفتقد إلى كل ما سبق وتضحي به أحيانا من أجل أطفالها أو عائلتها وفي العمل والشارع يتم التحرش بها، ولا تتساوى مع الرجل في الحقوق والراتب ولو كانت هذه المرأة تنتمي لأقلية دينية أو لطائفة متشددة، وقتها يكون الوضع في غاية السوء. فالحقيقة التي يدركها ببساطة أي شخص جرّب السفر إلى الخارج هي أن الشعب المصري لا يعيش حياة آدمية، ولكنه يدخل يوميا في تحدٍّ من أجل البقاء، معظم الناس لا يمكنهم التفكير أو الإبداع؛ لأنهم في الحقيقة مشغولون بتوفير وإشباع حاجاتهم الأساسية كالطعام والملبس والعلاج والزواج، والذي أصبح التحصل عليهم في غاية الصعوبة وسط كل هذا الجو الفاسد والمجتمع غير المنتج. والسيدة المنتقبة هي امرأة مقهورة خرجت من قلب هذا المجتمع عليها أقصى درجات الضغط، تتقبلها في سكون وتنتظر في داخلها تلك الجنة التي تحاول الوصول إليها بأعمالها وطاعتها وتقشفها، وكما أن الضغط يولّد الانفجار، فإن القهر الذي تتعرض له هذه السيدة يقودها إلى العنف والعصبية في أحيان كثيرة، وأنا لا أقول إنها معذورة في ذلك. ولكن على المجتمع أن يعي أسباب هذه الظواهر وأن يعالجها من جذورها، وعلى السيدة أن تعمل على إعادة تأهيل نفسها وتحاول إفراغ همها في أنشطة إنتاجية حقيقية، بعيدا عن جلسات المساجد والخطب والقنوات الدينية التي لا تتوقف عن نفخها وتعظيم ذاتها وإفهامها أنها أفضل من الآخرين، ومؤهلة لقيادتهم للجنة، وفي الحقيقة هي قد تكون عاجزة عن إسعاد زوجها أو قيادة أطفالها للمدرسة أو تعليمهم أي شيء مفيد كمعظم السيدات المصريات. في الحقيقة السيدات والفتيات المصريات بحاجة حقيقية إلى الإنتاج، وإلى الإيمان بأنفسهن بشكل أكبر وبقدرتهن على صنع أشياء جميلة ورائعة تجعل حياتهم أفضل، حتى هؤلاء اللاتي يردن الاحتجاب وارتداء النقاب عليهم الاستغراق في أنشطة كالحياكة أو التطريز أو النسيج وقص القماش بدلا من قصّ شعور الأخريات. أخرجوا طاقتكم في أشياء مفيدة.. قبل أن تشوّهوا صورتكم تماما أمام المجتمع بأكمله