لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. المخرج الكبير جون كاربنتر يحتلّ بالضبط في عوالم أفلام الرعب نفس موضع ستيفن كينج في عوالم أدب الرعب، بالإضافة لهذا فهو ظاهرة حقيقية: مؤلف وكاتب موسيقى تصويرية ومصوّر بارع. هذا جعل أي فيلم جديد لكاربنتر عيدا حقيقيا لهواة الرعب، وإن كنت لا تعرف كل أفلامه؛ فدعنا نتذكّر: "كريستين" عن قصة ستيفن كينج المخيفة، و"الضباب" و"هالوين" و"الشيء" و"مصاصو دماء جون كاربنتر" و"أشباح المريخ"، وطبعا "في فم الجنون". من علامات العباقرة المهمة أن تختلف الأمور بعدهم عمّا كانت من قبلهم، وبالتأكيد لن تظلّ أفلام الرعب كما كانت بعد ما ظهر فيلم "الشيء" عام 1982.
كاربنتر يحتلّ نفس موضع ستيفن كينج في عوالم أدب الرعب لا أتحدّث بالطبع عن الفيلم الجديد الذي ظهر عام 2011، وهو بالمناسبة مشوّق جدا، هذه من المرات القليلة التي يُعاد فيها تقديم فيلم ناجح فيأتي الفيلم الجديد جيّدا، لكن التحفة السينمائية الحقيقية هي تلك التي قُدّمت عام 1982، والتي تجعلك جالسا على حافة المقعد معظم الوقت.. هذا هو رعب البارانويا كما يجب أن يكون، والأهم أنه يتكلّم عن الخطر الشيوعي الذي كان قائما وقتها ولم يدرِ أحد أنها أيامه الأخيرة.. إن الشيء يرمز لتغلغل الشيوعية في المجتمع الأمريكي، كما فعل فيلم "غزو خاطفي الأجساد" من قبل.. هناك لمسات واضحة تذكّرك بفيلم "الغريب" لريدلي سكوت، أما عن المؤثّرات فهي متقنة جدا برغم أن دهرا يفصلها عن مؤثرات الكمبيوتر المعاصرة. الفيلم -وهو من بطولة كيرت راسل- إعادة لفيلم قديم اسمه "الشيء القادم من عالم آخر".. يتناوله كاربنتر ليصدم به الجمهور الذي لم يكن قد اعتاد هذا النوع من الرعب، مع ارتفاع معدّلات "القرف" وهي شيء لم يكن شائعا وقتها.. اشْتُهر الفيلم كذلك بعبارة "الإنسان أكثر مكان دافئ تختفي فيه!" في الإعلانات، وهي عبارة مخيفة يعتبرها البعض أفضل عبارة Tagline لفيلم رعب. شاهد التريللر الخاص بالفيلم هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: تدور القصة -التي كتب لها السيناريو ابن الممثّل بيرت لانكستر- حول شيء غامض فضائي تجمّد في القطب الجنوبي منذ 16 مليون سنة.. هذه تيمة خالدة في أفلام الرعب، وهناك فيلم مهم لهامر يحكي عن شيء مماثل يُنقل في قطار من منشوريا لكن الحياة تدبّ فيه. يبدأ الفيلم ببعثة في القطب الجنوبي، وطائرة نرويجية تطارد كلبا من نوع "الماليموت" وتطلق عليه الرصاص.. تحترق الطائرة، ويُدرك الطاقم الأمريكي للبعثة أن معسكر النرويجيين محترق بالكامل، وأن هناك جثث منتحرين وجثة متفحّمة تبدو كأنها ذات رأسين. شاهد افتتاحية الفيلم هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: ثم ننتقل لعالم بارد مفعم بالثلوج وخالٍ من الأنثى تماما، في القاعدة الأمريكية التي اختارها القدر. هذه هي البداية.. ومع الوقت ندرك أن هناك شيئا غامضا دخل القاعدة الأمريكية؛ مثل تقاليد رعب البارانويا هذا الشيء يمكن أن يصير أي واحد في أي لحظة.. أنت تكلّم صديقك ولا تعرف أنه مسخ. مثلا هو في البداية يتخذ صورة كلب، ثم ينقلب هذا الكلب كجورب في مشهد شنيع، وتخرج منه ممسات في كل اتجاه، ويتطاير منه الدم واللعاب، بينما الكلاب السليمة المذعورة تعوي محاولة الفرار. شاهد هذا المشهد هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: إن الخطر يتضاعف، ومع الوقت يُدرك الأمريكيون أبعاد هذا المأزق.. هناك مشهد رعب شهير يُحاولون فيه إفاقة رجل مات حديثا من البعثة الأمريكية؛ فتصير للصدر أسنان تبتر ذراع الطبيب، ثم ينفجر الصدر ويخرج رأس، ويفرّ رأس الجثة على أقدام عديدة كأنه عنكبوت.. في هذا العالم القاسي لا يوجد حل سوى النار من قاذفات اللهب لإنهاء هذه الكوابيس، لكننا سوف ندرك أن النار لا تكفي للقضاء على الشيء. هذا مشهد لا يمكن أن نصفه بل لا بد أن تراه إضغط لمشاهدة الفيديو: إن هذا كله تمّ عمله دون كمبيوتر وبجهد فنان شاب اسمه "روبرت بوتين"، متخصّص في عمل المؤثرات في أفلام جون كاربنتر.. هناك جزء بسيط من المؤثّرات صنعه ساحر المؤثرات الخاصة ستان ونستون. هناك مشهد آخر شنيع يُذكّرك كثيرا بفيلم Blade Runner؛ حيث يجرى اختبار على الناس لمعرفة إن كانوا من الأندرويد أم لا.. هنا يجري كيرت رسال اختباره على قطرة من دمك، ويلاحظ استجابتك لوضع إبرة في السائل الأحمر.. هذا رعب "أحدنا شيطان" الشهير. إضغط لمشاهدة الفيديو: في النهاية يموت كثيرون ويتمّ تدمير القاعدة.
إضغط لمشاهدة الفيديو: نرى نهاية قاسية فعلا؛ إذ يجلس الناجيان وحيدين يتبادلان نظرات الشك.. نحن نعرف أن أحدهما هو الشيء لكن من؟ الأكثر رعبا أن يكون كلاهما هو الشيء! لا نعرف أبدا، وهي نهاية تذكّرنا بالغموض في نهاية فيلم Blade Runner حيث يحوم السؤال: هل هاريسون فورد هو نفسه أندرويد؟ يرضخ الرجلان لهذا الغموض ويتبادلان جرعة شراب من زجاجة لم تدمّر بعد. مع الأسف عُرض هذا الفيلم في ذات الوقت الذي عُرض فيه فيلم سبيبلبرج E.T؛ فبدا للناس غريبا و"مقرفا" أكثر من اللازم مقابل الجو الأسري الودود لفيلم E.T، لهذا لم يحقّق ضربة تجارية وقتها، بل الحقيقة أنه قوبل بعاصفة كراهية من عشّاق الخيال العلمي وعشّاق الرعب.. هذا شيء لم يستطع كاربنتر فهمه قط، لكنه ككل الأفلام الجيّدة بدأ يكشف عن محاسنه مع الوقت وصار له أتباع كثيرون، ويرى عدد من النقاد أنه أروع فيلم رعب على الإطلاق.