ليت الميدان ظلّ لخناقات الإخوان واليساريين، ولتهجّمات الليبراليين والسلفيين، ولسبّ المرشد والوهابيين، وللتهكم على الرئيس والمساعدين، بدلا من أن يصبح مرتعا للفلول والمتآمرين، وأعداء الثورة أجمعين.. كيف لم ننتبه إلى هذا الشعار من قبل.. "مصر لكل المصريين".. على اختلاف توجهاتهم وبرامجهم وميولهم.. كم كنا مخطئين سابقا حين حاولنا عزل الفلول، وحين فكرنا مجرد تفكير في أن ميدان التحرير هو ميدان الثورة، وحين توقعنا "بهبل" أن الثورة أعلى من الخلافات الداخلية.. ولكن ها هي الخلافات الداخلية بين طرفي الثورة (الإسلاميين وخصومهم)، تتعالى على ضمير الثورة، وتدوس على دماء الشهداء، وتتجاهل تاريخ الدم والتضحيات لتفتح مصاريع الميدان لأنصار عكاشة وشفيق وغيرهما ممن يعفّ اللسان عن تدنيس المقال بأسمائهم.. مَن المسئول عن حالة الانتشاء التي أصابت أعداء الثورة على صفحاتهم الشخصية وتصريحاتهم الإعلامية من نوعية "ها قد عدنا يا صلاح الدين"؟ ومن الذي لم يجد حرجا في السماح لهؤلاء بتدنيس الميدان مجددا؟ ومن سمح لهم أن يدوسوا على أشلاء شهدائه مرتين؟ أي ذنب في مقابل ذلك مغفور وأي تقصير معذور، ولكن هذه خيانة لا تضاهيها خيانة، يلحق صاحبها العار والصغار إلى الأبد.. أعترف أن بعض الثوار الذين لم تمُت ضمائرهم لهثا خلف المقاعد والمناصب ما زالوا يحتفظون بنقاء ثوري افتقده كبارهم.. فرفضت بصيرتهم دخول الفلول إلى الميدان.. هاجموهم.. طردوهم.. منعوهم من أن يرقصوا على دماء الشهداء الزكية.. لكن خرج بيان لا تفسير له في نظري من حزب الدستور يأسف للاعتداء على أعضاء حزب المؤتمر المصري الذي يتزعمه عمرو موسى، الذي كان أحد الفلول ذات يوم، ملأت صوره الحوائط وأعمدة الإنارة "لا تنتخب الفلول.. موسى وشفيق".. وعندما سئل السيد حمدين صباحي قبيل تظاهرات العزبة عن صحة خبر التنسيق مع عكاشة ورجاله نفى وجود أي تنسيق، لكنه قال إنه من حق كل شخص أو حركة أو حزب أو جماعة التعبير عن آرائهم بطريقة سلمية في أي وقت.. أفلا يعدّ هذا ضوءا أخضر لهم أيها المناضل العظيم الذي أشبعتنا حديثا عن الثورة حتى ظننّاها حلّت في روحك؟ لن أدّعي ظلما على أحد فأقول إن هناك اتفاقا سريا بين "التنظيمات الثورية" -أصبحت الكلمة مضحكة لحد البكاء- وبين الفلول، فكل شأن سري هو ملك لأصحابه، ولنا الظاهر والله يتولى السرائر، ولكني سأسأل عن الهدف من حالة التمييع تلك في التصريح بحق "الكل"، وعن الاعتذار ل"بعض" هذا الكل، وقبل ذلك وبعده عن معنى هذا الشعار الغريب.. "مصر مش عزبة.. مصر لكل المصريين".. ولفهم طبيعة ما حدث لا بد من الرجوع إلى ترتيب الأحداث، فترتيب أي حدث كفيل دائما بكشف حقائقه.. اشتباكات بين الإخوان وخصومهم في الميدان يوم جمعة الحساب، إلقاء التهمة بكاملها على الإخوان، المنطق يفضح ذلك، الإخوان هم من تضرّروا، لا مانع ليشتد الهجوم والتكثيف الإعلامي وتقديم البلاغات ضد كل من نعرف اسمه، ثم إعلان عن تظاهرات قريبة يوم الجمعة؛ أولا للرد على "اعتداءات" الإخوان، ثم تسمية التظاهرات بأنها "مصر مش عزبة"، على اعتبار أنها ضد الإخوان الذين جعلوها عزبة -بمنطقهم- ثم زيادة جملة "مصر لكل المصريين".. بالطبع كل المصريين تعني كل من يحمل بطاقة رقم قومي أو بطاقة تموين، المعنى واضح أننا جميعا من ثوار وفلول ضد الإخوان، وعلى هذا خرج بيان الدستور معتذرا عما سماه خطأ غير مقصود بالهجوم على أفراد يتزعّمهم فلّ كبير، وجاء تصريح حمدين بأنه لا مانع من خروج بعض "المصريين" للتظاهر في أي مكان وأي وقت؛ لأن مصر لكل المصريين.. النتيجة واضحة، وليس فيها ذرة من التجني.. قادة التيار الليبرالي واليساري (الذين دعوا للتظاهرات) لا يجدون غضاضة في التعاون مع "كل المصريين" بمن فيهم الفلول؛ للوقوف في وجه الإسلاميين "أصحاب العزبة" (من وجهة نظرهم).. أكرر اعتذاري للثوار الأنقياء الذين لم يفسدهم طلب السلطة ولم تقتل براءتهم أحلام الكراسي.. هؤلاء ليسوا مستعدين لبيع مبادئهم مقابل الوصول لحلم بمنصب ضاع في سبيله العمر.. هؤلاء ليسوا طلاب سلطة.. هؤلاء هم الأحق بهذه الثورة من نخبهم بل ومن الإخوان أيضا.. أثناء التظاهرات وأنا أطالع صور قاتلي الثوار وشاتميهم وهم يتفاخرون بصورهم في الميدان بصقت على من أعطاهم صكّ دخول جنة الشهداء والحرية.. وقتها تملكني التشاؤم، وقلت إن الثورة انتهت، بالفعل ما دامت الفوارق بين الثورة وأعدائها قد تلاشت فلا معنى لوجود ثورة، إلا إذا حوّلناها إلى ثورة ضد الإخوان، وفي هذه الحالة أيضا تكون الثورة التي نعنيها قد انتهت.. لكني بعد وقت قصير لم ألبث أن أكتشف أن الثورة لن تموت، وأن حماقات بعض منتسبيها لن تشوّه وجهها الجميل، وأن من سقط هو من حاول استغلالها لصالحه أيا كان؛ فالثورة هي ضمير هذا الشعب، وهي دمه الذي لن ينسى، وهي صوته الذي لن يُكتم بعد اليوم.. هي أوجاع المصابين وأنّات أمهات الشهداء كل عيد، هي الحلم في عيون الصغار، والأمل بمستقبل آمن لن يموت.. ولأنها إرادة الله من بدايتها فهي تنفي خبثها، وتُسقط المتاجرين بها، وتجتث من يحاول إخضاعها لمصالحه.. أقول هذا الكلام للجميع.. لليساريين والليبراليين والإخوان والسلفيين والجميع.. لن ينتفع أحد بدم هذا الشعب مجانا، ولن ينجح إلا من يعطيه بالمقابل العرق والسهر والتضحية بالوقت والجهد والشهوات.. فمصر لم تعد عزبة.